lundi 16 janvier 2017

يوميات معتقل من سجن المرناقية: الدولة المارقة... وزبانيّة التنين




كنت مولعا بان خلدون، قرأت مقدمته مرات ومرات.... أغيب عنها أحيانا وأعاودها، فإذا هي قراءة جديدة مختلفة... الرجل كان مدهشا في عمقه الفكري.. كان يفكك بنية الدولة والمجتمع الإنساني تفكيكا دقيقا... كان يحلل الظواهر الاجتماعية والتاريخية تحليلا فيه ما فيه من فلسفة وحكمة وتوظيف للمعارف واستنتاج منطقي.
قررت أن اطلب مقدمة ابن خلدون في السجن... ابن خلدون سيرافقني أيام حبسي.. عساه ينسيني أمثال شوقي طبيب... قد تكون رفقته أفضل من رفقة مافيات السياسة في تونس... ترك العلامة إرثا معرفيا هز الثقافة العربية والإنسانية.


الدولة لا تقوم إلا بالعصبية... عصبية القبيلة والوطن أو عصبية العقيدة والمذهب...
ما هي عصبية دولتنا اليوم؟
كانت عصبية قائمة على حزب التجمع... وهي عصبية في شكل تحالف قائم بين أصحاب رؤوس الأموال المحلية ومراكز النفوذ العالمية... عصبية دارت حول الرئيس وعائلته... وحين انهار النظام تفككت نواة العائلة الحاكمة.
السبسي الآن يريد أن يعيد تشكيل عصبية جديدة بنفس الآليات التقليدية كي يحكم تونس... هذه الآلية أثبتت فشلها ولا يمكنها أن تعيد التشكل... نحن الآن نعيش في مرحلة ظرفية انتقالية... نحن نبحث عن عصبية للدولة يخضع لها الناس... أنا في السجن لأنني رفضت الانخراط في عصبية السبسي.... هي عصبية قائمة أيضا على تحالف بين رؤوس الأموال المحلية والطامحين السياسيين.
من هناك الغنوشي يريد أن يشكل عصبيته الخاصة، فأبعد أغلب القيادات التاريخية لحركة النهضة هو يريد عصبية قائمة على شخصه، عصبية تشبه عصبية بورقيبة، لكنه ليس مثل بورقيبة لان قسما واسعا من التونسيين يرفضون خطابه وأفكاره.
يا بان خلدون ... حوارك معي في السجن يخرجني من دنس العالم... عالم الفوضى والغدر والخيانات.


ذات يوم غضبت كثيرا فشتمت الجميع... كل من كان في السجن... المكلفون بتفتيش الطعام منعوا عني أكلات معينة في القفة... حنقت وشرعت في شتم الجميع... لا أبا لكم... لعن الله من وظفكم ... صادروا عني أكلة الملوخية والجلبانة وحتى العسل منعوه... هي أكلات ممنوعة لان سجناء الرأي العام يدخلون فيها أنواعا من المخدرات... لا أبا لهم...ما علاقتي أنا بالمخدرات.... غضبي كان بسبب الولاءات ... هنالك أشخاص يدخلون ما شاؤوا بوسائلهم، وهم من كبار السفلة... البعض داخل السجن يحترز مني أنا قادر على فتح كل ملفات السجن في صحيفتي بمجرد إشارة مني.
أنا لم اطلب مزية، أنا هنا سجين رأي في هذا المكان المقرف ... هم يحابون البعض ... أنا لا اطلب محاباة، لعن الله من كان سببا ... لعن الله كل قاض لا يحكم بالعدل... لعن الله كل قاض من قضاة الزور والبهتان والنفاق.
هدّأ البعض من روعي...كنت حانقا جدا والضغط النفسي قد ارتفع في مقر احتجازي... الكلب ابن الكلاب ذاك الذي أودعني هنا... مافيات السياسة تلك... سوف أجرهم بقلمي لسنوات سأحرث بهم الأرض بقلمي، سأفضحهم وأفضح سرقاتهم ونهبهم للمال العام.


أين أنت يا بورقيبة، يا زعيمنا... مات بورقيبة فقيرا لا يملك دارا ... الغنوشي والسبسي قائمون على أموال طائلة لهم ولابنائهم، ثم يحاكونك عن الوطنية... الوطنية يتبناها الفقراء، والوطن يفتكه الأغنياء.
مأساة تونس اليوم أنها قسمة ضيزى بين السبسي وبين الغنوشي.
كنت اكتب بعض الخواطر لي... أنشر منها جزءا وأترك الباقي إلى زمن قريب... أبلغتني شقيقتي المحامية أن الناشط السياسي ماهر زيد قد كتب مقالة ندد فيها بتوظيف المحكمة العسكرية لقمع المعارضين... كنت كتبت عنه بسوء.... أنا وإياه لا نلتقي في أفكارنا، هو إسلامي الهوى، وأنا أعارض الاسلاميين.
 بقي أن موقفه قد هزّني لأنه موقف الرجال، بقطع النظر عن الاختلافات والصراعات لان هذا الوطن للجميع، للوطنيين... سيتعجب البعض مما كتبه ماهر زيد... وما نشرته الثورة نيوز... الصحيفة مفتوحة لكل الأطياف السياسية، اليساري والإسلامي والقومي والليبرالي.... هو جدل الأفكار، غير أنني طلبت أن يختص الخط التحريري للصحيفة بمعارضة السلطة واقتفاء أخطائها في شكل من أشكال الرقابة باعتبارنا جزءا من المجتمع المدني.
صحيح أنني في قيود السجن... وصحيح أنني معزول عن العالم لكنني أقاوم بشراسة وشرف... مقاومة الرجال الأشداء... هم يتحركون في شكل قطعان... يتحالفون لتحقيق مصالحهم ومنافعهم... وهم يعلمون أن الدولة ذاتها إنما تتأسس على قيم الشر وإرادة القوة المطلقة، هي قيم العبودية والاسترقاق... الدولة كيان شرس يشبه التنين بتعبير "هوبز"... بل هي التنين نفسه تبتلع الجميع ما عدا الأقوياء... لكن الأقوياء سرعان ما يسقطون إلى الضعف وحينها تبتلعهم الدولة الشرسة... تهاوى بن علي وعائلته... فسحقهم ذلك التنين.


 أنا أحارب الآن ذلك التنين الساكن في أعماق الدجلة... السبسي جزء من التنين وشوقي طبيب وزبانيته وكمال اللطيف وغلنمانه جميعهم إنما هم مخالب للتنين يمتصون دماء الضعفاء... التنين ساكن في عروق الدولة وهو الذي يرعى كل أشكال الفساد، وهو عرّاب المؤامرات... لكن تقوم لا الدولة إلا بذلك التنين.
 في السجن تعلمت أن أصبر وان أصابر ما أمكنني... السجن قبة حديدية يصبح فيه صرير الأبواب الحديدية لحنا يعوض لحن العود... بل إن شقشة مفاتيح السجان تحبل بالرمزية والدلالات ... مفتاح السجان هو علامة الحرية وعلامة سلب الحرية ... ذلك المفتاح هو الذي يمنعك من الخروج إلى العالم، انه حكم القاضي وجهد الشرطة ونص القانون انه رمز للحبس.
حين يشقشق المفتاح قد يكون ذاك إيذانا بفك القيد عن المسجون... إذا أتم عقوبته فانه ينطلق بعد دخول المفتاح الى محجره.


 ذات يوم قابلت في اللارية شخصا أثار ضجة في تونس... عادل الدريدي انه ذاك الشخص الذي كون جمعية مالية وانصرف الناس يودعون أموالهم في خزانته ... كانت تلك الأموال تتضخم وتتوالد والرجل يجمع المليارات... تحول في وقت قصير إلى جبل من الأموال... شنت وسائل الإعلام عليه حربا شعواء وتقطعت به السبل... وتدخلت الدولة وتدخل التنين الساكن في الدولة.... ماذا يفعل هذا الرجل انه يريد أن ينافس التنين في تجارة الأموال، انه يريد أن ينافس الدولة في ريعها.
هاجموه ... هاجمته قطعان الذئاب ... تلك الذئاب التي تأكل ما يتركه التنين من فرائسه... انهار الرجل سريعا وأودع السجن... كان هناك رجلا ملما عرافا دقيقا ... انه يعلم انه محكوم بأحكام طويلة غير انه مصر انه إنما أراد النفع للناس أيضا وان الإشاعات هي التي حطمته بل انه يتهم أعوانا للتنين بأنهم سرقوا كثيرا من ماله... وبقطع النظر عن الرجل هل كان صادقا ام كاذبا صاحبي مشروع أم لا ... فانه من المؤكد أن أناسا كثرا قد أصابوا من ماله غنيمة.


أبلغني عادل الدريدي بما تعلق به... بعض رجال الأمن سرقوا ماله ونهبوا داره انه يعرفهم فردا فردا... كانت الحملة ضده مستعرة وكان قد اختبأ عن الأنظار خشية الانتقام... حين أوقفوه كان معه مال كثير... زعم الرجل أنهم قد نهبوه والعهدة على من روى.
 كان دخول شهر جانفي إعلانا لاكتساح البرد والقرّ... نسمات البرد تنساب من بين فجوات الباب الرئيسي للغرفة الواسعة... والنافذة من أعلى كانت ممرا لتيارات الهواء القادمة من ربوع الشمال الغربي... كانت ليالينا مسامرات ... بعض المساجين يروي لك كتبا عن حياته ومغامراته... الكل يحمل تجارب شتى... قليل منهم من يفقه في السياسية... اغلبهم رؤوس من قطيع الأغنام ذاك الذي يسوسه التنين الجبار... رجل السياسة هو أنموذج مصغر للتنين المتوحش.
 أولئك المساكين من السجناء والدهماء ما هم سوى رعاع .... هم العامة تلك التي تقاد قياد البهائم... في لغتنا العامية "البهيم" هو الحمار... وفي الفصحى البهائم هي الأنعام تلك الحيوانات التي لا تتحوز عقلا تميز به بين أشياء العالم.
عامتنا بهائم أو أنعام ... الأمر سيّان... هم دهماء ... يقادون إلى الهلاك.... زعيمهم ذاك الذي انتخبته أنا وانتخبوه هم، يحملنا إلى التهلكة وبئس المصير.


لم يكن السبسي بذلك القدر من المكر... إنما هو احد قطع الشطرنج في اللعبة الإقليمية... هو ذاته توظفه قوى إقليمية لضمان مصالحها في الفضاء التونسي... الغنوشي ذاته انخرط في لعبة الإقليم متطوعا حتى ذاب في القوى الدولية... طبقتنا السياسية هي سبب بؤسنا وماساتنا... هذه الطبقة وجدت نفسها تحتكم إلى جزء من السلطة فتورطت في لعبة المصالح المالية والسياسية والإعلامية... هنا انهارت تمامنا أمثولة الوطنية كقيمة أخلاقية وسلوكية وسياسية.
 هل يشعر أحدكم حقا بهذه الوطنية... أنا اعشق أرضي وترابي وبلدي غير أنني لا املك أي شعور بالانتماء إلى هذه الدولة اللاوطنية المارقة عن الأخلاق والقوانين والأعراف... هذه الدولة التي تدافع عن التطبيع وتنخرط في سياسات السعودية وماما أمريكا ... هي دولة تقتل الإحساس الإنساني بالانتماء إليها.
 قد يكون الشعور بالانتماء إلى الوطن شعورا مجردا في الذهن، وهو منفصل تماما عن الخضوع إلى جهاز الدولة والشعور بالانتماء إلى عصبية الدولة... أنا تمردت ضد تلك العصبية الزائفة لأنها عصبية لا وطنية تدافع عن مصالح أقليات على حساب الأغلبية المفقرة والمهمشة... الدولة التنين تسمح لمن فاز بالانتخابات واستطاع خداع الناس ان يشرع في الجمع والمنع... تستفيد منه عائلته وأصدقاؤه والمقربون منه وحلفاؤه... تلك هي الديمقراطية في العالم الثالث.
السياسة قياد للناس... ووازع بينهم في مصالحهم ومعاشهم... هذه الدولة يمكن أن تكون وازعا يزع الناس بعضهم عن بعض.. ويمكن أن يحولها الاستبداد والطغيان إلى تنين ... التنين يرمز إلى الشر المطلق والوازع هو مثال للحكم العادل... العامة تبحث عن تطبيق قيمة العدالة والأقليات تميل إلى الاستبداد أنا أقف هنا في صف الأغلبية المقهورة.


 كمال اللطيف ينتمي إلى تلك الأقلية الظالمة... وزبانيته من شوقي طبيب إلى بن تيشة وخلف الله ما هم سوى بيادق تتحرك في رقعة شطرنج ... يظنون أنهم فاعلون ومؤثرون لكنهم في الحقيقة ليسوا سوى بيادق تنفيذ.
 أحيانا تبحر بي أفكاري إلى السياسة والتاريخ والتصوف والدين والحروب في ما قرأته وطالعته في تكويني... تخال انك أصبت الحقيقة وهي خواء.
أحيانا أخرى تسترجع ذاكرتك عهد الطفولة حيث عشت وكبرت... كنت طفلا صغيرا سكنت في الحي العسكري خلف قاعدة العوينة العسكرية ... كان ذلك في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي... وكان أبي ضابطا من خريجي الدورة الأولى للاكاديمية العسكرية.... اذكر جيدا آمر الثكنة العقيد الشهيدي رحمه الله .... كان أولاده جيرانا لنا في السكن... لعبت وإياهم في تلك الثكنة الواسعة.
في دراستي الثانوية عدنا إلى مدينة سوسة في النصف الثاني من السبعينات درست الابتدائي بالعوينة وانتقلت إلى الدراسة الثانوية بمعهد الذكور بسوسة... كنت متفوقا في دراستي.
 كان صباي خليطا مركبا من تجارب الحياة... أسكنني ابي المبيت المخصص للتلاميذ بمعهد الذكور بسوسة أنا وشقيقي الأكبر... كانت دارنا بالحي العسكري بقلب المدينة على بعد أمتار من المعهد الثانوي للذكور... كان أبي صارما وأرادنا أن ننضبط داخل المبيت ... كنا مقيدين بالنظام الصارم للمبيت؟.
 ذلك المبيت خرج أجيالا من رجالات تونس... علمهم معاني الانضباط والوطنية الحق... كنا نرى دارنا على بعد أمتار ... غير أن القرار العسكري الذي اتخذه والدي كان صارما.
السجن ليس مبيتا تعليميا... هذا كفن الحياة وبؤس الوجود... تتوقف الذاكرة عن النشاط وتعاودني ريح السجن.


يوم السبت 7 جانفي لسنة 2017... أتانا المنادي ليلا أن أتوجه أنا للانتقال إلى مدينة سوسة... كنت أعلم مسبقا أن لي قضايا مرفوعة ضدي من طرف أشخاص كشفت فسادهم... وهي قضايا منشورة على منطوق الفصل 115 من مرسوم الصحافة... كنت رفضت في مرة سابقة أن اذهب إلى مدينة سوسة للتحقيق في تلك القضايا لاعتبار وحيد وهي أنها قضايا جناحية غير مستعجلة يمكن تأخيرها... وهي في المنتهى قضايا نشر وتعبير.
كان عددها يناهز 50 قضية متراكمة منذ أمد.
 قررت الآن أن اذهب إلى مدينة سوسة... هذا ما يسمونه في مصطلحات السجن بالكونفة... وهي تحريف للفظة الفرنسية "كونفوا"...حيث يتم تجميع السجناء المطلوبين في قضايا أخرى في دوائر قضائية لولايات أخرى... ويسير بهم رتل من سيارات السجون والإصلاح.
وتخضع عملية نقل السجناء إلى إجراءات خاصة... منها تفتيش السجناء فردا فردا... وهم يعمدون إلى تعريتهم في شكل مهين يتعدى كل حقوق الإنسان.


وكان السجين ينقل من سجن إلى آخر دون مراعاة حاجياته وأغراضه ... ودون إعلام أهله أو محاميه وهو قمة الاستهتار بكرامة الإنسان وحقوقه... إنها إجراءات موروثة منذ عهود الاستعمار البائس.
 وصلنا مدينة سوسة ونقلنا إلى سجن المسعدين بعد رحلة مضنية في ظروف لا إنسانية وقاسية ولا صحية... كانت تجربة ممتلئة... وكنت اعلم أنني أواجه مافيات الشر... وتلك المافيات تريد أن تبحث لي عن خطيئة أو ثغرة لذلك قررت الذهاب إلى التحقيق في سوسة لسد الثغرات... وكانت فرصة للخروج من كهف المرناقية المظلم.
 دام التحقيق يومين متتابعين .... كانت القضايا جميعها ضد ما نشرته الثورة نيوز من معطيات.... في الأثناء أعلمني المحامي أن النيابة العسكرية قد عينت تاريخ جلسة الاستئناف في تاريخ 8 فيفري لسنة 2017 .
 كان ذلك خرقا فاضحا للقانون إذ نصت مجلة الإجراءات الجزائية على أن المتهم الموقوف تعين قضيته فورا في اقرب جلسة... لكنهم يريدون التنكيل بشخصي إرضاء لوزيرهم فرحات الحرشاني... وإرضاء لأسياده من سراق السلطة.
 لم يكن لهذه الألاعيب أن تحرك سريرتي... أنا ثابت كما أنا جلد صابر قوي عتيد... كنت ارقب تلك الممارسات والخروقات منذ بدايات الصراع بل منذ الحملة الإعلامية إلى كيد قاضي الزور الصحبي عطية وصولا إلى جلسات الحكم الابتدائي لدى قاضي القضاة العادل التقي منير صولة فقيه القانون.
 أنا لست انتظر من قضاة الاستئناف شيئا لأنهم ينتمون إلى نفس المنظومة القضائية... قضاء عسكري يطبق تعليمات رئيسه المدعو فرحات الحرشاني...
سوف تتبدل رياح السياسة لان ريح السياسة قلّب تتبدل في كل زمن... هؤلاء سيأتون الي يطلبون العفو... لأنني لم أبع مبادئي ولا خنت وطني.
قد مات الوطن فيهم... وبقيت أنا حيا في وطني.

 سجين الرأي رقم 169531 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire