الإعلام ,أو الصحافة ,كما يراه الأستاذ منصور هو البحث عن الحقيقة
وسبر أغوار الحدث في كنف الموضوعية و دون رضوخ للمؤثرات الخارجية و النوازع
الشخصية . انه نقل الحقيقة بحذافيرها . ولا تقتصر مهمة الصحفي , حسب الأستاذ ,على مجرد نقل الخبر و سرد تفاصيله ; و إنما تتجاوز السرد إلى
تحليل ذلك الحدث بوصفه لازمة اجتماعية و الإحاطة
بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية و السياسية . بعبارة أخرى , تحويل الحدث إلى ظاهرة
و تناوله بالدرس كحالة اجتماعية . فالصحفي , أو رجل الإعلام , هو بمثابة الطبيب الذي يعاين جسم المريض قصد الوقوف على أسباب المرض و
وصف الدواء اللازم للمريض .. أو يشرح الجثة لتبيان أسباب الوفاة . و لعل الحاج
منصور استلهم هذه النظرة الاستشرافية للإعلام من نظرية ابن خلدون في التاريخ و طبقها
على الإعلام ! فقد غير ابن خلدون النظرة للتاريخ بعد أن كان مجرد سرد للوقائع
التاريخية فحوله إلى علم يدرس نشأة المجتمعات و تطورها و قيام الدول و أسباب
انهيارها . يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة : " التاريخ في ظاهره سرد و
إخبار و في باطنه نظر و تحقيق " .
ومن هذا المنظور ومن خلال تلك المقارنة
يصبح الإعلام الاستقصائي , كيفما أسس له الأستاذ منصور, دراسة للمجتمع وإشعارا بالآفات الاجتماعية و عرض للحلول البديلة بغية استئصال
الأورام الاجتماعية والنهوض بالمجتمع من مطباته . الإعلام الاستقصائي هو : علاج للمجتمع . و نجد الحلول التي
اقترحها الأستاذ المفكر محمد الحاج منصور منشورة في جل أعداد الصحيفة منذ انبعاثها
. و بصفتي دارسا للاجتماع , فقد تتبعت سيرورة تلكم
المقالات و لفت انتباهي أن مقالات الحاج
منصور و كتاباته اتبعت نفس المنهجية عبر مراحل أربعة : 1- سرد الحدث و الإدلاء
بمؤيدات الخبر 2- رصد الحدث و ملاحظة إمكانية
تكراره ليصبح الحدث بذلك ظاهرة 3- تحليل
الظاهرة 4 - اقتراح الحلول لمعالجة الظاهرة . و هذه المنهجية هي عينها المتبعة في
العلوم التجريبية : الملاحظة و التحليل و
الاستنتاج . مثال ذلك تحليله لظاهرة البطالة والفقر و التهميش و الحيف الاجتماعي و
ما إلى ذلك . وتبقى الظاهرة الكبرى , أو
" أم الظواهر " , هي ظاهرة الفساد التي تنخر دواليب الدولة و مؤسساتها و أوصلت البلد إلى شفا
الإفلاس و إلى مصير مجهول مظلم . و لذلك حظيت ظاهرة الفساد بنصيب الأسد من كتابات الحاج منصور و تحليلاته .
و يحسب للرجل في هذا المضمار انه قدم الحلول البديلة لمعالجة الظاهرة عوض الحلول التي
اقترحتها الحكومات الفاشلة المتعاقبة و
التي كان مصيرها ثاني اثنين :إما بقاء تلك الحلول حبرا على ورق و إما إفلاسها حال تطبيقها في ارض
الواقع و خيبة من وضعوها . و مؤدى ذلك أن الحلول البديلة للأستاذ ناعم كانت ثمرة
نظرة استشرافية شاملة أحاطت بمختلف جوانب
ظاهرة الفساد و أبعادها و لم تقتصر على جانب واحد دون غيره . و لست أغالي إذا قلت أن
الحاج منصور احدث ثورة في الإعلام . ورغم المعية الرجل و فكره الفذ فقد فتح صدره
لجميع الآراء و تقبل مختلف المشارب إيمانا
منه بان في الاختلاف رحمة . و اليوم , إذ نجد ذينك العقل الكبير و الفكر النافذ يقبعان خلف القضبان
يعترينا الأسى و تغمرنا الحسرة على بلد
يسجن مبدعيه , بلد يكمم
الأفواه و يصادر الحق في الكلمة . فالرجل لم يذنب عندما رام مساعدة حكومة عاجزة في
إيجاد الحلول للمشاكل الاجتماعية المستعصية . فكافاته تلك الحكومة بالسجن , ذنبه الوحيد انه أراد
الإصلاح في الأرض و انه قطع مع منظومة إعلامية بالية ومتخلفة فخرج عن الطابور غير
عابئ بالكلمة التي قيلت له حينئذ و التي كانت في وقت مضى تقال لتلاميذ
المدارس : " شد الصف لا
تاكل كف ! " . أصر على
الخروج من الطابور و أعلن الثورة على إعلام يسوق للرداءة وينعق خلف كل ناعق . إعلام
حرباوي متلون " يطبل و يزمر" لكل سلطة قائمة
. إعلام يبيض الفساد و يشهر بالمصلحين . و تحضرني هنا حكاية قرأتها عندما كنت طفلا
عن غراب مر بطائر جميل محبوس في قفص . سال الغراب الطائر : " لماذا أنت في
القفص ؟ " . أجاب الطائر : " لأني أتكلم ! " .
( ابن الحاج الصغير)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire