mardi 27 septembre 2016

وجهة نظر: الأمن بين الجّد والهزل




صادف وأن تحدثت إلى عدد من الأمنيين المتقاعدين بخصوص الوضع الأمني وسبل تطويره بعد إرساء منظومة إصلاح شاملة لمؤسسة كابدت مصاعب جمّة منذ انبعاثها إثر الاستقلال مقابل تحمّلها لأعباء ثقيلة لحماية الوطن داخليّا وفرض النظام العام في مختلف المحطات العسيرة التي عاشتها البلاد.
حيث لا يخفى عن المتتبع للشأن الأمني تغيير مفهوم العمل الأمني إثر ما يسمّى بالانتقال الثوري سنة 2011 وظهور نواة عقيدة أمنية تؤسس لمشروع أمن جمهوري قد يتطلب عقودا من الزمن إلا أنّ العقيدة الأمنية المؤملة تفرض آليات وميكانيزمات فنية وتشريعية وأخلاقية تسهم جميعها في التأسيس لمفهوم أمني حديث قادر على التأقلم مع المتغيرات في حراك متجدد يمكّن من تأمين الوطن وفرض السلم الشعبي وحماية الممتلكات العامة والخاصة وحماية الدورة الاقتصادية والمشاريع التنموية تكريسا لمبادئ الجمهورية.
ولفت نظري محدّثي لأهمية وإلزامية إحداث إطار تشريعي قانوني للمهمة الأمنية التي ظلّت مضطربة من حيث الأداء والطريقة والنتيجة باختلافها في إطارها الزماني والمكاني نتيجة غياب التأطير القانوني ممّا نتج عنه تورّط قيادات أمنية في جرائم عدّة ما أنزل الله بها من سلطان لمجرد تطبيقهم لقانون مترهّل قارب عتبة الخمسين من العمر وقد تجاوزته التطورات الاجتماعية والسياسية والقانونية والأمنية والفكرية التربوية الأمر الذي تسبب في سجنهم ومقاضاتهم بطرق مهينة ومريبة أسّست لعقلية الانفلات والتهرب القيادي.
فما هي مظاهر التهرب القيادي الأمني؟ وما هي سبل إرجاع الثقة لأفراد المؤسسة الأمنية؟
وما هي النتائج المستشرفة في قادم الأيام والسنين؟ومن يتحمّل مسؤولية المستقبل الأمني؟


لقد لفت نظري محدّثي بأن العيب ليس في حصول أخطاء بالجملة صلب المؤسسة الأمنية منذ الاستقلال وإلى حدّ تاريخ اليوم ، بل العيب في البقاء في دوّامة الخطأ وبوتقة الاضطراب والخوف والوجوم من المصير المجهول لكل قائد أمني ميداني بمختلف الرتب والدرجات والمهام المسندة عملا بمبدأ التكليف لا التشريف ، كيف لا ووزارة الداخلية قد شهدت متغيرات موسمية على مستوى قيادات التسيير والإشراف . فلم نعد نعرف استقرارا قياديا تبعا لتدخل الطرف السياسي في وزارة السيادة ، فهذا حزب يملي تسمية بعض القيادات وذاك حزب يفرض إقالة قيادات أخرى،  وتلك جمعيات من مكونات المجتمع المدني تندّد بتدخل أمني صارم وذاك مدوّن يهاجم إطارا أمنيّا باعتماد الثلب والتشهير، وتلك وجوه من أحزاب الأغلبية البرلمانية تتصفح السيرة الذاتية لأطراف أمنية وتبحث عن روابط انتمائهم الحزبي الخفيّ ومدى قدرتهم على مبايعة شيوخ الدولة في مفارقة غريبة متعارضة مع مبادئ الأمن الجمهوري الذي يفرض الحياد الأمني والولاء للوطن وحدة دون غيره.
فقد أثبت الواقع المعيش تآكل الرصيد البشري للقيادات الأمنية جرّاء عواصف الإعفاءات والإحالة على الثلاجة الأمنية وسوء التصرّف في الموارد البشرية صلب الوظيفة العمومية ككل وصلب وزارة الداخلية خصوصا نتيجة تدخل العمل السياسي في الشأن الأمني وتكالب الأحزاب على السيطرة على عصب الدولة خدمة لأجندتها على حساب المجموعة الوطنية التي آثرت الصمت والاكتفاء بالمتابعة.


كلها عوامل عجّلت بتعيينات قيادات مسقطة سرعان ما تهاوت وستتهاوى لنقص في الخبرة أو ضعف في الشخصية أو خلل في التكوين القيادي أو انعدام لروح المبادرة والخلق الأمني ، إضافة إلى اضطراب نفسي لبعض القيادات التي اختارت ترضية الأطراف السياسية الداعمة والتي تبحث عن وضع موطأ قدم في قلب وزارة الداخلية التي ظلت تعاني من تواتر التعيينات وعجز أفرادها عن تنفيذ برامج أمنية على المدى القصير والمتوسط وهم الذين خططوا لذلك الأمر الذي عجّل برحيلها نتيجة ما ذكر آنفا ونتيجة كذلك الفشل في الأداء وعدم قدرة مختلف الحلقات القيادية والقاعدة الأمنية على المسايرة نظرا إلى كثرة التغييرات واختلاف طرق العمل القيادي وغياب دليل العمل الأمني تبعا لغياب الأطر القانونية والتشريعية لقطاع الأمن الوطني.
جملة هذه الأسباب التي أتينا على ذكرها أفرزت تهربا قياديا أمنيا مقيتا وعزوفا عن قبول المهام فالجميع يعلم أن فترته محدودة عدا فئة صغيرة طموحة راهنت على قبول المناصب القيادية دون التحوز على آليات النجاح الأمر الذي قد ينتهي إلى الفشل القيادي أو ما يسمّى "بالانتحار القيادي" المنعكس آليا على فشل المؤسسة الأمنية في أداء دورها المنوط بعهدتها على الوجه الأكمل بعد إعادة الثقة لأفرادها ممّن أقيلوا بطرق مهينة وتمّ استبعادهم نهائيا دون استغلال معارفهم وخبراتهم في تأطير العمل القيادي وخصوصا الميداني منه مقابل تمكينهم من رواتبهم وامتيازاتهم الأمر الذي ساعدهم على التفرغ للانتماء الحزبي الخفيّ والولاء لأولي النعمة الحزبية والتخلص من العقيدة الأمنية بحثا عن المتعة الشخصية ودوسا على المصلحة الوطنية مما يستوجب تجريم التقرب الحزبي للأمنيين والاختراق الأمني للحزبيين وولاء النقابيين الأمنيين للساسة وعرابي القرار إذا كنا نريد خيرا لهذا البلد.
فالواقع الأمني المعيش والمستقبل المستشرف يوحيان بصعوبة إدارة الشأن الأمني في ظل التهرب القيادي واضطراب ثقة الأفراد في مؤسستهم والتدخل السياسي الصارخ في المجال الأمني مع غياب للإطار التشريعي للعمل الأمني بسبب غياب الإرادة السياسية لدى الكتل البرلمانية التي التفت كليا على تشريع قوانين منظمة للعمل الأمني ومؤطرة لمجالات تدخلهم حماية لهم من المساءلة القضائية جراء حمايتهم للوطن زمن فرضهم للنظام العام الذي قد يفرض حتما الصرامة والحزم وعنف الدولة عند الاقتضاء المعمول به في أعرق الدول الديمقراطية.
لهذا انشغل نواب الشعب في إثارة مواضيع ثانوية على حساب الأولوية الأمنية فهذا ينادي بمساواة المرأة بالرجل في الميراث وذاك يشرع للحياة المثلية وتلك تدعم محاصصة الرجل للمرأة صلب الوظيفة العمومية وهؤلاء منشغلون بتأييد صفقة عمومية أو ميزانية تكميلية عدا خوضهم في مقومات سيادة الدولة على غرار تقنين العمل الأمني وتأطيره زمن فتور العمل النقابي الأمني وغياب الإرادة السياسية وتجاهل الأصوات الأمنية المنادية بإلزامية التقنين مقابل الانشغال بالتموقع الحزبي وحماية المصالح الذاتية المادية والاقتصار فقط على النعيق المبهم بضرورة إصلاح المؤسسة الأمنية دون المرور إلى العمل الفعلي والملموس لهذا الإصلاح الذي يستوجب بالضرورة سنّ القوانين ووضع الأطر القانونية المتحدّث عنها أعلاه.
فالجميع مسؤولون أمام الوطن والكلّ سيحاسبون أمام محاكم الشعب من أجل الإخلال بالواجب الوطني والتغاضي عن تطوير المؤسسات وتقنينها تأسيسا لدولة وطنية ذات أمن جمهوري محروم من حق الانتخاب لكن من حقه التمتع بآليات التأمين إن لم نقل الحصانة الأمنية حتى لا يشهد البلد انفلاتا على شاكلة ثورة 2011 تبعا لغياب الأطر القانونية وفقدان الثقة والتهرب القيادي وهجرة الكفاءات والاستقالة الذهنية المبكرة لإطارات الداخلية خوفا من تحميلهم ما لا طاقة لهم به .
وفي الأخير بقيت تونس تقول لابنها الأمني كما قالت أسماء : قاتل عبد الله واحمي ظهرك بالجدران فهي خير من إخوانك الذين نسوا أصلهم وفصلهم وغسلوا وجوههم من علامات الرجولة.        





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire