تفاعلا مع أحد أعدادنا
السّابقة حول هياكل الرّقابة العامّة وعدم وجود بوادر إصلاح وإعادة هيكلة أصدرت
نقابة وجمعيّة المراقبين العموميّين (التي تجمع أعضاء الرّقابة العامة للمصالح
العموميّة التابعة لرئاسة الحكومة وهيئة الرّقابة العامّة للماليّة التابعة لوزارة
الماليّة وهيئة الرّقابة العامة لأملاك
الدّولة والشؤون العقارية التابعة لوزارة الماليّة) بيانا تلوّح فيه بانتهاج جميع
سبل النّضال في حال لم تستجب الحكومة المؤقتة لمطالبهم الإصلاحيّة. وبعد أيّام أعادت
النقابة المذكورة الكرّة ولكن في ظلّ غياب أيّ بوادر تفاوض مع الحكومة الحاليّة
نفّذ أعضاء هياكل الرّقابة العامّة يوم 20 جانفي 2015 إضرابا عن العمل وأصدروا
بيانا في هذا الصّدد نشرته العديد من المواقع الالكترونيّة وتمّ استعراض أهمّ
مطالبهم على قناة نسمة وعديد الإذاعات....
ولمن لا يعرف يتكون
المشهد الرقابي أو المنظومة الرّقابية بتونس من دائرة المحاسبات كهيئة عليا للرّقابة
ويعاضدها في الرّقابة الخارجيّة هياكل الرّقابة العامّة الثلاثة المذكورة في حين
تتولّى الهيئة العليا للرّقابة الإداريّة والماليّة متابعة التقارير التي تصدرها
أجهزة الرّقابة وتنسّق بينها في مجال الرّقابة والأبحاث الخاصّة. وبما أنّنا لسنا
من أهل الميدان ولا ندّعي في الأمر علما فقد حاولنا جاهدين استقصاء المسائل
المثارة في بيان نقابة المراقبين العموميّين مرورا بالموجة الإصلاحيّة التي يدّعيها
البعض بخصوص الرّقابة ومكافحة الفساد بعد الثورة انتهاء عند بعض الممارسات التي
تنطوي على "خنار كبير" لا يمكن لادّعاء الاستقلاليّة أن يحجبه عن
الأنظار...وتوصّلنا إلى ما يلي:
1- عدم وضوح الرّؤية بخصوص الإصلاحات الجوهريّة
والجذريّة:
اتّضح من خلال أعمالنا
الاستقصائيّة أنّ قطاع الرّقابة هو القطاع الوحيد تقريبا الذّي لم تشمله أيّة عمليّة
إصلاحيّة جذريّة وحقيقيّة بعد الثورة بالرّغم من علاقته المباشرة بمسائل الفساد
ومن أهميّة دوره في الحدّ من إهدار المال العامّ وترشيد التصرّف. بل والأدهى من
ذلك هو أنّه القطاع الوحيد الذّي تتنازعه الرّؤى المتضاربة والخلافات بين الهياكل
المنتمية له حتى أنّنا قد عثرنا خلال بحثنا على ما يقارب 10 مقترحات إصلاح في شكل
مشاريع قوانين أو تقارير تتراوح بين تجميع هياكل الرّقابة العامّة الثلاثة ضمن هيكل موحّد أو ضمّها إلى الهيئة العليا للرّقابة
الإداريّة والماليّة (وهو مقترح مشروع
قانون أعدّته الهيئة العليا للرّقابة الإداريّة والماليّة في حلقة ضيّقة وبالتّالي،
وفي ما عدا المجاملات وتوخّي الصّمت الرّهيب في بعض الحالات، لم يحظ المشروع بموافقة
رسميّة لأيّ من الهياكل الرّقابيّة العامّة عدا البعض من أعضائها المنتمين لجمعيّة
المراقبين العموميّين وهو ما زاد في ضبابيّة الموقف وما عمّق الهوّة بين الهياكل
وساهم في تشتيت المجهود). كما توجد إلى
جانب ذلك مشاريع أوامر أحيلت لرئاسة الحكومة منذ عهد الترويكا وتمّ استبدالها بأخرى
في عهد حكومة المهدي جمعة وتتضمّن صيغا عديدة وسيناريوهات غير واضحة بعضها يتّجه
نحو إعادة هيكلة كلّ هيكل رقابيّ على حدة، وبعضها الآخر يتناول النّظام الأساسيّ
فقط لأعضاء هذه الهياكل دون التطرّق إلى مهامّها....مجرّد مقترحات مبعثرة ونصوص
متناثرة ومبعثرة والهدف غير واضح، ولم نجد من جامع بينها سوى تلك العبارة العامّة
المبتذلة "المساهمة في الحدّ من الفساد" ولا شيء غير ذلك علما بأنّه قد
بلغتنا معلومات مؤكدة حول حالة التململ والاحتقان التي تفشّت لدى المراقبين
العموميّين جرّاء عدم وجود رغبة حقيقيّة من رؤسائهم في العمل في إصلاح المنظومة
الرّقابية وعدم وجود صيغة تمكّنهم من تبليغ مقترحاتهم وهو ما اضطرّهم إلى الاحتجاج
والإضراب عن العمل. فبحيث ما ينقص هياكل الرّقابة العامّة هو وضوح الرّؤية بخصوص
عمليّة الإصلاح المرجوّة وخاصّة تحديد موقف نهائيّ من مسألة التجميع والتوحيد أو
المحافظة على وضعها الهيكليّ والإداريّ الحاليّ مع تحسينه، علما بأنّه وحسب بعض
مصادرنا العليمة قد طالت هذه الضّبابيّة شركاء تونس من المنظّمات والهيئات الدّوليّة
المتعهّدة بمعاضدة مجهود الإصلاح وإعادة الهيكلة وذلك إلى حدّ أنّ التوصيّات الصّادرة
عن كلّ من البنك الدّوليّ ومنظّمة التّعاون الاقتصاديّ والتنمية في شأن الرّقابة
الخارجيّة هي توصيّات متضاربة تتضمّن مقترحات متنافرة وغير قابلة للتجسيم لا تخدم
أيّ طرف والسّبب معروف : فممثلو هذه الهيئات الدّوليّة يعتمدون في تقاريرهم وتوصيّاتهم
على المحادثات التّي يجرونها مع المسؤولين العاملين بالقطاع المعنيّ ويأخذون في
عين الاعتبار ما يمدّونهم به من معطيات ومقترحات وعليه فإنّ التضارب في توصيّاتهم
ليس إلاّ مرآة عاكسة للاختلافات في الرّأي على مستوى هياكل الرّقابة وعدم إجماعها
على مشروع موحّد يضمن النّهوض بقطاع الرّقابة وإصلاح المنظومة الرّقابيّة ويمكّن
من تفعيل دورها بحقّ في مكافحة الفساد مع احترام خصوصيّة التجربة التونسيّة
ومقتضيات المعايير الدّولية للرّقابة اللاّحقة وخاصّة الرّقابة الماليّة والمحاسبة...ولا
نستغرب مثل هذا الحال فبالرّغم من بحثنا المتواصل طيلة أسابيع لم نعثر على تمش حظي
بالدّفاع عنه أو حتّى ببعض الاهتمام وهو ما أكّدته لنا مصادرنا التّي أوضحت لنا أنّ التجارب المقارنة التّي
تعتمدها هياكل الرّقابة العامّة في طرح مشاريع الإصلاح (مشاريع قوانين وأوامر) هي
في حدّ ذاتها متأرجحة بين التجربة الدّانماركيّة
ونظيرتها الاسكندنافيّة متبّلة بالمثال الفرنسيّ مفوّحة بالمشهد الانقليزيّ مصنّفة
في طبق تركيّ.... ويضاف لهذا التأرجح قطيعة بين الصفّ الأوّل للمراقبين القدامى
الارتودوكسيّين الرّافضين للتّجديد للمحافظة على مناصبهم ومراكزهم ونفوذهم والصفّ
الثاني للكهول والشبان الطّامحين في ثورة حقيقيّة على مستوى طرق عملهم والهياكل
التّي ينتمون إليها....خلاصة القول أنّ هياكل الرّقابة العامّة الثلاثة تعاني من تبعات
فشل مشروع القانون الذّي أعدّته الهيئة النّائمة للرّقابة الإداريّة والماليّة منذ
سنة 2011 التّابعة لرئاسة الجمهوريّة من قبل أطراف لا علاقة لهم بهياكل الرّقابة
العامّة وبمشاغلها ونشرته على موقع الواب الخاصّ بها بصفة مسقطة ثمّ قبره السيّد أحمد
عظّوم رئيسها غير الشّرعيّ (نظرا لعدم الاختصاص في الرّقابة والتدقيق ورغبة في
الاختفاء عن الأنظار إلى حين يتمكّن من إقناع مستشاري رئيس الجمهورية بتسوية وضعيّته
غير القانونيّة باعتباره تجاوز سنّ التقاعد دون تمديد في المباشرة أو ربّما إلى
حين يطالعنا اسمه على قائمة الوزراء التكنوكراط في حكومة الحبيب الصّيد حيث بلغنا
أنّه من المرشّحين لتولّي حقيبة وزارة الرّقابة وتقييم السّياسات كمكافأة على السّبات
العميق الذّي أقحم فيه الهيئة العليا للرّقابة الإداريّة والماليّة... وقدرة
الإقحام في السّبات العميق والموت السّريريّ شرط مطلوب في أيّامنا هذه) ولئن تضمّن المشروع إحداث كائن خرافيّ متغوّل مستقلّ اسمه
"الهيئة المستقلة للرّقابة والتقييم" وما يترتّب عن ذلك من المناصب
والكراسي (رئيس الهيئة المستقلّة، نوّاب رئيس، رؤساء دوائر ورؤساء أقسام ورؤساء
خلايا أي بعبارة أخرى هيئة مستقلّة للرّؤساء...) فإنّه قد شتّت المجهودات وحجب الرّؤية
وسيّس مسألة إصلاح المنظومة الرّقابية خاصّة إبّان تبنّي رئيس الجمهوريّة السّابق محمّد
المنصف المرزوقي لهذا المشروع في جوان 2013 في ملتقى "علميّ" أشرف على
افتتاحه (الفيديوهات متوفّرة على موقع الهيئة العليا للرّقابة الإداريّة والماليّة)
ختم بتمرير المشروع بصفة غير رسميّة للمجلس لوطنيّ التّأسيسيّ عبر حزب المؤتمر من
أجل الجمهوريّة سنة 2013...هذا المشروع الذّي عوض أن يعمل على تطهير الأدران التي
شابت المشهد الرّقابي والمنظومة الرّقابية، ويضمن حسن سير عمل الهياكل المعنيّة
أضفى المزيد من الضّبابيّة وعدم توحيد المواقف خاصّة وأنّ هذه الهيئة المزمع
إحداثها لفظها جميع المختصّين في عالم الرّقابة والتدقيق قبل أن ترى النّور لسبب
وحيد وهي أنّها تتعارض تماما والمعايير الدّولية للرّقابة الدّاخليّة: إذ من غير
المعقول سلب السّلطة التنفيذيّة الممثلة في رئاسة الحكومة ووزارة الماليّة ووزارة
أملاك الدّولة والشؤون العقاريّة وسائل عملها وافتكاك هياكلها الدّاخلية للرّقابة
والتدقيق ليصنع منها كائنا منبتّا عن الإدارة غير متّعظين بالاستقلاليّة الموهومة
والمزعومة المسندة لدائرة المحاسبات والتّي لم تمكنها إلى اليوم من رقابة التصرّف
الاداريّ والماليّ للمجلس الوطنيّ التأسيسيّ وصندوق الشيراتون غايت والتصرف
الاداريّ والماليّ للاتّحاد العامّ التونسيّ للشّغل وغيرها أو محاسبة عون مسؤول عن
إتلاف ملفّ.... والتاريخ مواعظ وعبر...
2- المطلب الشّرعيّ الأساسيّ" زيد الماء زيد
الدّقيق":
وفي غياب رؤية إصلاحيّة
وعدم اتخاذ أيّ قرار بخصوص تفعيل دور هياكل الرّقابة العامّة ودائرة المحاسبات في
مكافحة الفساد تطالعنا على العكس العديد من النّصوص الترتيبيّة التّي تمتّع بها
أعضاء هذه الهياكل بمنح وزيادات في الرّواتب والامتيازات فقد اتّضح حسب مصادرنا
العليمة ووفق ما تمّ مدّنا به من أوامر ومراجع قانونيّة وترتيبية أنّ أوّل إجراء
إصلاحيّ اتّخذ لفائدة هياكل الرّقابة العامّة فجر الثورة سنة 2011 هو تمتيع هيئة
الرّقابة العامّة للماليّة بمنحة اسمها "منحة الاستخلاص" وهي في حدود 4
آلاف دينار (صافي) يحصلون عليها في نهاية كلّ سنة رقابيّة ونتج عن ذلك احتجاج من
قبل أعضاء الهيكلين التابعين لرئاسة الحكومة ووزارة أملاك الدّولة فتمّ إثر ذلك
تعميم هذه المنحة على جميع أعضاء هياكل الرّقابة العامّة ومن ثمّة فتحت الشّهية
للزّيادة في الشّهريّة على حساب وعلى عكس المردوديّة، فتمّ تمتيع جميع أعوان
وإطارات وزارة الماليّة بمنحة إضافيّة سنة 2013 شملت هيئة الرّقابة العامّة للماليّة
وبذلك أصبحت رواتبهم تفوق رواتب المراقبين العموميّين الآخرين فتصاعدت الاحتجاجات مرّة
أخرى وهي البند الأساسيّ في إضراب يوم 20 جانفي 2015 حيث جاء في بيان نقابة
المراقبين العموميّين التونسيّين أنّ من أسباب احتجاجهم "تهديد استقلاليّة
المراقبين وحيادهم من خلال التقليص تدريجيّا من امتيازاتهم بدءا من تجميد أجورهم
مقارنة مع زملائهم من نفس التكوين الأكاديميّ العلميّ ومن أسلاك مشابهة وصولا إلى
تعطيل مسارهم المهنيّ"... وبذلك نكون في وضعيّة زيد الماء زيد الدّقيق، فبحيث
كلّما طالب هيكل بزيادة في الشّهريّة تتعالى الأصوات الاحتجاجيّة في بقيّة الهياكل
الرّقابيّة لتعميم النّعمة واتّقاء البليّة من شر البريّة....
3- عودوا إلى الميدان لكسب الرّهان:
نداء صريح لرئيس الحكومة المكلّف،
القادمة بخطى متباطئة : لماذا لم تندّد هياكل الرّقابة العامّة الثلاثة ودائرة
المحاسبات والهيئة العليا النّائمة للرّقابة الإداريّة والماليّة، وفيما بعد
الهيئة الدّستوريّة للحوكمة الرّشيدة
ومكافحة الفساد بوزارة الرّقابة وتقييم السّياسات العموميّة التي على ما يبدو
ستجتاح المشهد الرّقابيّ وستضفي على المنظومة الرّقابية المزيد من الضّباب
والتغييب والتهميش؟ الإجابة واضحة فهي فتح آفاق وهي مناصب وكراس من وزير إلى مدير
ديوان فمديرين عامّين والواضح أنّهم سيكونون من أهل الرّقابة خاصّة وانّه بلغتنا
معطيات حول مساعي كلّ من أنور بن خليفة كاتب الدّولة المكلّف بالحوكمة والوظيفة
العموميّة (والذّي تردّت فيه تونس إلى الحضيض في مكافحة الفساد) ومحمّد الطّاهر
بالأسود مدير ديوان رئيس الحكومة المؤقتة الرّاحلة (المحفوف بشبهات الفساد والفاشل
جدّا في التصرّف في الملفّات وإدارة الدّيوان صديق لصّ الصيدلية المركزية توفيق
بوفايد) للالتفاف على هذه الحقيبة الوزاريّة...ولذلك وبالرّغم من عدم وضوح أسباب
إحداثها ومخاطر افتكاكها لمهامّ هياكل الرّقابة العامّة ودائرة المحاسبات وتدخّلها
في أعمال أعضاء الهياكل الرّقابيّة وغير ذلك من صفّارات الإنذار ضدّ الاستقلاليّة
...إلاّ أنّه ما من أحد تساءل حول "لماذا" هذه الوزارة المستحدثة
و"كيف" ستكون علاقتها بهياكل الرّقابة العامّة ودائرة المحاسبات والهيئة
العليا النّائمة للرّقابة الإداريّة والماليّة وهل ستكون سوبر وزارة رقابيّة أم
ماذا ؟ ولعلّه في حال استحداث هذه الوزارة يكون من الأجدى أن يتجنّب رئيس الحكومة
المكلّف الحبيب الصّيد مخاطر تعيين مسيّس على رأس هذه الوزارة لما في ذلك من ضرب
لاستقلاليّة وظيفتي الرّقابة والتقييم وتغاضي عن الخصوصيّة التقنيّة والفنيّة
لهاته الوظائف الحسّاسة وفتح باب الترشّح لهذه الوزارة للمختصّين في الرّقابة على
المالية العمومية والحوكمة والتصرف والتسيير واستراتيجية السياسات العموميّة
ومكافحة الفساد دون غيرهم (من دائرة
المحاسبات وهياكل الرّقابة العامّة) مع اعتماد معيار الانفتاح على المدرسة الجديدة
في الرّقابة التّي يمثلها الشّباب الذي يتقن أساليب الرّقابة وتقييم التصرّف
ويواكب التطوّرات السّريعة الحاصلة في هذا المجال على مستوى عالميّ من أصحاب
الشهائد العليا العلمية في الاختصاص وذلك حتّى لا نقع في المحظور وعدم القدرة على
رقابة المال العامّ المهدور الذّي وقعت فيه الهيئة النائمة للرّقابة الإداريّة
والماليّة منذ سنة 2011 نتيجة تداول شخصيّات لا علاقة لها بالرّقابة والتدقيق
والتقييم على رئاستها، وكذلك الشّأن بالنسبة لدائرة المحاسبات الغارقة في
التجاوزات بعد ترأسها من السّيء ثم الأسوأ ... ولنا في ذلك ألف عبرة...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire