قال محدثنا:" أرَى الّناسَ قد أَدْبرُوا, فهَجرُوا
الأحزاب, وطَلَّقُوا السّياسة."
لقد أصيب الإنسان التونسي بنكسة حقيقية بعد سنوات من إسقاط نظام بن علي, هي
مرارة الذات لنُكُوص ذاتها, وخيْبتها لاغْترابها في واقعها, وهي حسرةٌ تَطْويها
حسرةٌ لسقوط الأَيْقونات ولتهاوي المُثُل ... فقد انهارت القدرة الشرائية للفرد,
واتسعت دائرة الفقر اتساعا مخيفا, وتعاظمت ثروات رؤوس الأموال وبلغت حَدَّ
التوحّش, وتراجعت المؤشرات الاقتصادية, واتضح أن البلاد التونسية إنما تعيش فوق
أرضية هشّة, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, مما فتح الباب لتدخل القوى الأجنبية في
سياسات الدولة... إنها الفوضى العارمة تلك التي تتجلى في أكوام الزبالة المنتثرة
في كل مكان مع انهيار كليّ للخدمات البلدية, مثلما تتضح في ضعف الدولة في مواجهة
الإرهاب وعجزها عن إخماد أشكال التمرد المسلح, أو في تلك الإضرابات اليومية التي
أنهكت الاقتصاد الوطني, أو في سقوط المنظومة التعليمية والثقافية, أو في تفشي ظاهرة
الجريمة المنظمة, وانكسار القيم الأخلاقية الجماعية, وانتعاش التهريب خارج اقتصاد
الدولة.
هل تحمل هذه الأحزاب مشروعا وطنيا متكاملا للمستقبل؟
هل بإمكانها أن تطبق مشاريع اقتصادية تُرسي العدالة في توزيع الثروات خارج
إرادة صندوق النقد الدولي والقوى الكبرى؟كيف يمكن للأحزاب أن تَبْنى أنموذجا
للدولة الوطنية الحديثة؟
نرى هنا وهناك حملة انتخابية, وملصقات اشهارية, وحصصا تلفزية, تقتحم علينا
بيوتنا... فيها مترشحون قلة, يملؤون عليك نفسك, وفيهم أكثرية ليس لهم من وَقْع
السياسة إلا طبلٌ فارغ يُدَوّي منه ضَرْبٌ زائفٌ, ثم إن المتأمل في المشهد
السياسي التونسي في ما قبل الانتخابات ينتهي إلى أن كل هذه الأحزاب تعبر عن أفكار
متشابهة ومتقاربة, هي شظايا ُمتفتّتة ومُجزّأة لحُطَام قديم من الأفكار الكبرى,
تلك التي شغلت العقل العربي منذ قرنين نقصد الأفكار الليبرالية أو اليسارية أو
القومية أو الإسلامية.
ولعل مشاركة النظام القديم في الانتخابات
يعد في حد ذاته سابقة في عالم عربي مُهتزّ ومُدمَّر... فالنظام القديم بشخصياته
وأفكاره قد استعاد شرعية وجود جديدة متناسيا انه سبب من أسباب الأزمة, وأصبح يُطل
برأسه طلبا للحكم, على قاعدة فشل تجربة الحكم ما بعد الثورة على جميع الأصعدة...
هذا النظام القديم يمتلك الدولة العميقة في الإدارة تلك التي ساهم في بنائها خلال
خمسين عاما, إنه لم يمُت لمجرد صدور حكم قضائي ضده, لأنه موجود فعلا في النسيج
الاجتماعي والاقتصادي وبالضرورة يكون له حضور سياسي... وهذا النظام القديم أثبت
قدرة عالية على الاستمرار والتَّمَاهي مع الواقع فأعاد إنتاج نفسه... وهؤلاء
الذين يقدمون الآن خطابا دستوريا أو تجمعيا إنما يعلنون فشل الثورة, لأنها لم تكن
ثورة حقيقية بقدر ما كانت هَزَّةً أو انتفاضة اجتماعية ضد دولتهم القديمة... وسيكون
لهؤلاء وجود حقيقي في مجلس النواب المقبل وفي المشهد السياسي عموما, غير أنهم
يتقدمون الآن إلى السلطة وهم شتاتٌ متفرقون وتلك نقطة ضعفهم.
أما حزب النهضة صاحب المرجعية الإسلامية
فقد كان حزبا ضخما إلا انه لم يعد كذلك, وتذهب التوقعات إلى أنه سيشهد تراجعا
حقيقيا في نسبة التصويت بعد الهزة التي أصابت جسمه السياسي, إنه يدفع ضريبة
الاندفاع إلى السلطة. فقد فشلت النهضة في تصريف الشأن العام, وخابت في مواجهة جهاز
إعلامي شرس ومعارض... وإنه لمن المكابرة, أن نسمع تصريحات للسيد "راشد
الغنوشي" يزعم فيها أن حزبه سوف يفوز بهذه الانتخابات وأنه إنما خرج من
السلطة باختياره, وهي لا تعدو أن تكون سوى تصريحات عاطفية, موجهة إلى الأتباع,
ومفارقة تماما للواقع... وهذا ما يؤكد أيضا أن حركة النهضة لم تقدم نقدا موضوعيا
لمرحلة حكمها ولم تُقوّم تجربتها بعدُ, ولم تُعاود قراءة أخطائها... ورغم ذلك
فسيكون للنهضة دور أساسي في المستقبل باعتبارها جزءا من الطيف السياسي التونسي,
وسيستمر وجودها داخل مجلس النواب المقبل... إلا انه لن يكون حزبا حائزا على
الأغلبية, بل سيتحول إلى كتلة تبحث عن تحالفات مع سائر القوى الضاغطة سياسيا كي
تحافظ على بقائها... ولعلنا لا نعدم القول أن حركة النهضة قد خسرت قسما واسعا من
المتعاطفين معها أولئك الذين راهنوا على المرجعية الإسلامية للحركة, مثلما أنها قد
خسرت جزءا هاما من أتباعها المخلصين لها تاريخيا... لقد تحولت حركة النهضة من
الحزب الأكثر شعبية في البلاد إلى مجرد حزب يتآكل طورا فطورا, فيفقد زخمه
الايديولوجي, وتنخره الصراعات الداخلية, وتُقسمه المصالح الفردية للطامحين
فيه إلى السلطة. لقد حَطمت النهضة رموزها مثل حال"العريض والجبالي"
ودارت كل حملتها الانتخابية على تضخيم صورة رمز واحد هو شخص راشد الغنوشي الحكيم
والملهم والداهية في تقدير بعضهم؟؟؟
أما الأحزاب ذات الإرث النضالي مثل
الجمهوري والمؤتمر وغيره من الأحزاب, فإنها لا تمتلك رصيدا شعبيا مثل حركة النهضة,
لذلك فإنها ستتشظى بسرعة, وستفقد تأثيرها على بعض النخب المثقفة التي ناصرتها
سابقا... ولن تكون قادرة على التضخم. إنها ستتراجع وستراهن على عقد تحالفات في ما
بعد الانتخابات... وهي أحزاب ضعيفة, وقد بُنيت في الأصل على نُوَى تضمّ بعض
الأفراد من الحقوقيين الذين عارضوا الحكم الاستبدادي... وحين شاركت هذه الأحزاب في
الانتخابات السابقة استفادت من ذلك الفراغ السياسي... غير أن المواطن قد شكل في
وعيه الفردي تصورا محددا عن هذه الأحزاب, باعتبارها كيانات سياسية مدنية تساهم في
إرساء فكرة الديمقراطية وفي تنوع المشهد السياسي, بيد أنها لن تكون قادرة
على تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لأنها بلا "شَوْكَة".
أما الأحزاب اليسارية خاصة تلك التي تجمعت
في الجبهة الشعبية فإنها لم تحسن الاستفادة من أخطاء خصومها.... ورغم مراجعتها
لموقفها من مسائل تخص الهوية والدين الإسلامي, غير أنها اقتصرت على مهاجمة
ومُناكفة خصمها الإسلامي في وسائل الإعلام دون ان تقدم بدائل واقعية ومقنعة... لقد
تخلى التيار الماركسي عن ماركسيته, وأسقط جدل التاريخ "الهيجيلي" وخان
طبقة "البروليتاريا" المسحوقة, وصار مدافعا عن فكرة البورجوازية الوطنية
, وانهزم نهائيا في مواجهة الرأسمالية المتوحشة, بل أصبح حليفا استراتيجيا لها
يقبل أموالها وعطاياها في حملته الانتخابية...ولعل الذي يُحسب لهذا اليسار هو
سيطرته على النقابة العمالية وهي سيطرة تاريخية تُكسبه قوة إزاء خصومه, إضافة إلى
غلبته في وسائل الإعلام, مما مكنه من عرقلة كل محاولات الترويكا للقيام بأي
إصلاحات في بنى الدولة.... هذا اليسار التونسي لا يزال مراهقا بلا بريق في المستوى
الشعبي ولن يتقدم كثيرا في هذه الانتخابات... بل سيكون حاضرا إلا أنه بلا أنياب.
هنا كيف يمكن أن نستقرئ ردود أفعال
التونسيين تجاه هذه الأحزاب, سواء من كان منها في الحكم أو من كان منها في
المعارضة ؟ لعلنا نذهب إلى توقع إمكانية عزوف عدد هام من الناخبين عن الذهاب إلى
التصويت... وقد تلجأ اللجنة العليا المستقلة للانتخابات إلى التمديد في آجال
الانتخاب درْءًا لخيبة سياسية كبرى... وهذا التوقع يرجع إلى شعور مُتنام بالإحْباط
يَنْتاب "الضمير الجمعي" لدى عموم التونسيين, لأن المغامرين في السياسة
ظلوا لأربع سنوات في خصام وتنازُع مَقيت, حَوَّلهم من مرتبة النخبة السياسية التي
تقود المجتمع, إلى مجرد طبقة سياسية مُهْتَرئة تحتكر الفعل السياسي وتَغْرق في
الفساد والمؤامرات والدسائس والفضائح والسّباب والشتائم, إلا أنها تتقاسم منافع
الحكم. لقد تحوّلت النخبة إلى طبقة سياسية تحتكر السلطة وتتقاسمها مثل غنيمة
حرب... والفائز ما بعد الانتخابات سيَحتكر السلطة قطعًا, غير أن المعارضة ستكون
محور هذه السلطة, وسينشأ صراع يشبه الصراع السابق, وسيُفرز ذلك ميلاد حكومة
مُحاصصة يشارك فيها جمْعٌ من الأحزاب... والمؤكد أنها ستكون حكومة عمْياء بلا
استراتيجية, وستكون ضعيفة ومُتردّدةً, وبالتالي سوف تعجز عن تبديل الواقع أو
النهوض بإصلاحات عميقة أو تحقيق آمال الفقراء والعاطلين والشباب... ولَسَوف نعيش
في الآتي, عَشريّة من الفوْضى والظلم والخوْف والعَمَى, باسم "انتقال
ديمقراطي" زائف, يُخفي في جلبَابه محنة مجتمع عربي بدائي, لم يدخل بعدُ إلى
زمن "الحداثة", لأنه ببساطة مسافرٌ في زمن "الانحطاط".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire