كيف يمكن أن نفسر ردود فعلي أنا ذلك الطفل التونسي الصغير, وأنا أرى
رأي العين طائرات إسرائيلية تدُكُ بيروت في صائفة 1982 ؟
كيف يكون موقفي أنا ذلك التونسي المنتمي إلى حضارات الشرق القديم, بكل ما فيه
من قيم وأخلاق, ولغات وأديان, وعادات وفنون, وأعراف وتصورات... ما هو موقفي من
دولة غاصبة, قتلتني في فلسطين, وافتكّت دار أبي, وصادرت حقل الزيتون, وقصفتني في
المخيمات, وجوعت بطني, وضربتني بقنابل الموت, وأحرقت الجسد مني, وأرسلتني طريدا
عاريا, أجوب المطارات بلا جواز سفر.
أيُطلب مني اليوم, أنا ذلك العربي أن أنسى تاريخ المأساة, بدءا من وعد
"بلفور" سنة 1917 حين باعت بريطانيا أرض أجدادي ... في حرب 1948
كنت أنا أسيرُ مع متطوعين من تونس مشيا على الأقدام لنصرة عرب فلسطين في مواجهة
عصابات "بن غوريون", ثم انتصرت اسرائيل...
في
سنة 1956 أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس فهاجمته إسرائيل وبريطانيا وفرنسا في
عدوان ثلاثي, وصمد الرجل في روح وطنية عالية... بعدها بكيت كما يبكي الرجال في
تونس, حزنا لهزيمة الجيش المصري أثناء نكسة 1967, وهاجمتُ مع المتظاهرين الحارات
اليهودية انتقاما للعدوان الإسرائيلي... كانت وفاة "جمال عبد الناصر"
حدثا فارقا في ذاكرتي, لقد مات الزعيم القومي للعرب, ودفنت معه "لاآت"
الرفض الثلاث "لا تفاوض لا صلح لا اعتراف", مات الرجل حزينا بلا نصر...
وفي حرب 1973
احتفلتُ "أنا العربي" والرئيس "السادات" والجنرال "سعد
الدين الشاذلي", رقصنا قرب حطام خط بارليف فرحا بنصر لم يكتمل... وهناك في
هضبة الجولان صفقتُ للدبابات السورية والعراقية وهي تهدم حصون العدو... وحين قبل
السادات فكرة الصلح في "كامب دافيد" سنة 1978 اغتاله الضمير العربي
بجَرَاءَة هزت عالما يشاهد عرض الجيش المصري.
احتل الجيش الإسرائيلي لبنان عام 1982 ودخل
العاصمة بيروت... نكستُ الرأس مني, وقد أخذني ريحُ ذلة وهَوان, هناك اقترفت
إسرائيل مجازر جماعية فظيعة في مخيم"صبرا
وشاتيلا". قتل الآلاف صغارا ونساء وشيوخا, كانت رائحة الموت تفوح في صور
القتلى, رأيتهم بعيني, وأنا مختبئ تحت جدار مُهدم, أتاني الموت, ثم انثنَى عني,
فنجوتُ... كان الجنرال "ارييل شارون" مثالا لقائد جيش مقاتل ومجرم,
واستمر حصار بيروت ثلاثة أشهر, سطرتْ فيها المقاومة الفلسطينية واللبنانية ملاحم وبطولات
لا زالت تتردد في أغاني "مارسال خليفة" وأناشيد "فرقة
العاشقين" وروائع "الشيخ إمام", كنت معهم هناك في بيروت أغني
عطشانًا ظمئًا, وعلى كتفي ألمُ الموت.
وهنا في تونس استقبل الزعيم "الحبيب بورقيبة" المقاومة
الفلسطينية, ونزلتُ أنا والرشاش في يدي, صحبة "ياسر عرفات" من ظهر
السفينة, وأهل تونس يملؤون شاطئ بنزرت ترحيبا بأبطال المقاومة وفخرا برجالات
العرب... بعد زمن هاجمت الطائرات الإسرائيلية مقر منظمة التحرير بحمام الشط
فأحالته رميمًا... ثم اغتالت الزعيم "أبا جهاد" غيلة ً في "سيدي
أبي سعيد", كان جهاز "الموساد" موجودا دائما هنا في أرض تونس, بين
ظهرانينا يتكَشفُ أخبارهُ فينا, فإذا نحن عُراةٌ لا أمنَ ولا حيلَةَ ...
وفي العراق عهد "صدام حسين" وبعد الحرب العراقية
الإيرانية, تضخم الجيش العراقي وتحول إلى قوة إقليمية ضاربة ومُمانعة, وكانت
الطائرات الإسرائيلية قد دمرت أول محاولة عراقية للصناعة النووية ... دُمر
"مفاعل تموز", خرجتُ أنا العربي من بين أنقاضه مُحطم الوجدان, كسير
الجأش, وانتحرت أحلام الدولة الوطنية للبعث العربي, مات النص في فكر "ميشيل
عفلق", وأعدموا قوة ردع إقليمية, خبْتُ أنا لخيبتهم... أثناء حرب الخليج
الأولى عام 1991 كانت النسوة في أحياء تونس يزغردن فرحا لكل صاروخ عراقي يدك أرض
إسرائيل. كانت لحظة امتلاء بكيان عربي مهزوم, ثم ماذا؟ هُزم العراق... بعد
سنوات قليلة تسقط بغداد, وتدوسها أحذية المارينز الأمريكي, ويمُوت "نبوخذ
نصر".
عام 2006 هزمت كتائب "حزب الله" الجيش الإسرائيلي... كنتُ
هناك أرى صواريخ المقاومة اللبنانية تلهب سماء الجليل وصفد وما بعد حيفا, وتسمع
خطابات رجل عربي "حسن نصر الله", فأسترجع بعض عزة مغدروة, وتأخذني رعشة
فخر بالذات... كانت جراحات متتابعة ومؤلمة, تنتقش في ذاكرة الضمير العربي,
هو وجع الذاكرة حين تأبى النسيان.
وها نحن اليوم نرى رأي العين مقاومة فلسطينية قد اشتد عودها,
مقاومة لكل أهل غزة... هؤلاء قد أحرجوا سياسيين عربا كرهوا الممانعة, حتى أولئك
السياسيين في تونس, قد كذبوا... يخرجون في مسيرات للتنديد بجرائم إسرائيل ثم تراهم
يتمسحون على عتبات المنظمات اليهودية في العواصم الغربية, وقضية فلسطين عندهم ليست
إلا موضوعا للمتاجرة بالوطنية حين يحتاجون إلى جرعة من الوطنية الزائفة. وهذا
الحال ينطبق على أغلب السياسيين.
في غزة رجال ليسوا كالرجال, أَلفُوا الموت لأجلك يا فلسطين,
وأظل أنا ذلك العربي المقاوم منذ 1948... شهدتُ كل المعارك حتى غارات البارحة...
كنت هنالك في أنفاق غزة, مع نخبة المقاومة أُعينهم في صواريخهم... أموتُ تحت منازل
الموت المهدمة مع الأطفال والشيوخ والولدان... أجري بهم إلى المستشفيات...
أنا ذلك العربي الكليم في العراق والكسير في سوريا... أنا العربي
المغبون في مصر وليبيا, وأنا العربي الحائر في تونس وفي اليمن ... أفقروني,
أذلوني, وقتلوا الفكر في عقلي, أولئك الحمقى من عرب النفط, حتى إني كفرت
بوطنهم... غير أني بقيت عربيا ممانعا في داخلة الضمير مني... أهيم شوقا إلى فلسطين
العروبة, إلى سكن القدس بأديانها وتاريخها واسلامها...
يا لعنة الزمن المقهور ... يا تَعْسَ عرب عاربة ما فيهم إلا عربيّ خَصيّ.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire