samedi 12 juillet 2014

الجباية والتهريب: هَرَجُ الدولة وانْتهَاب المُكُوس




   قدمت الحكومة مشروعها للميزانية التكميلية لسنة 2014 , هو مشروع لا يخرج عما دأبت عليه الحكومات السابقة منذ عهد "بن علي" إلى الحكومات المتتابعة في ما بعد الثورة, زيادة في الضرائب الموجهة رأسا إلى الطبقتين المتوسطة والفقيرة, مع الالتزام بحماية المصالح المقدسة لرأس المال المتوحش, إنه مشروع أبْتَر, عبّر عن إفلاسه حين دبّر وفكّر, ثم فكّر ودبّر, واستنبط حيلة عجيبة ما سبقها إليهم الأولون "ضريبة على عقود الزواج".
     وقد يحتاج صاحب السلطة إلى أن نقترح عليه النظر في كتاب المقدمة لمؤسس علم الاجتماع والمؤرخ "عبد الرحمان بن خلدون" خاصة في الصفحات 312 و316 و318 وقد ورد فيها ما يلي:
      "... والدولة هي السوق الأعظم أمُّ الأسواق كلّها, وأصلها ومادتها في الدَخْل والخَرْج, فإنْ كَسَدت وقلّت مصاريفها, فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها... واعلم أن السلطان لا يُنمي ماله إلاّ الجباية, وإدْرَارُها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال." 
      "...إنّ الظلم مُخرّب للعمران, وأن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانْتقَاض... واعلم أن العدوان على الناس في أموالهم, ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها, لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها, انتهابُها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها, انْقبَضت أنفسهم عن السعي في ذلك..."

   ونحن نتأمل التاريخ وتجارب الأمم السابقة, فنقارب القواعد العامة بحال أزمتنا الراهنة, فنقرأ في ما نقرأ عن أزمة مالية خانقة تدفع مصير الدولة التونسية إلى مستقبل غامض, يتهدد سيادة الدولة واستقلالها, ولهذه الأزمة تجلياتها وأسبابها, إنها أزمة في الجباية, وفي مواجهة الهرج والفوضى في أحد تعبيراته وهو "التهريب",  وهي كذلك أزمة "صاحب السياسة" حين يعوزه القرار الحكيم والصائب. ولسنا ندعي في هذا السياق تحصيل علم بالمسائل الاقتصادية أو المالية, وإنما نحن ندلي برأينا في تلك الكليات العامة التي تربط بين العوامل الاقتصادية و السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية أيضا.
  ومسألة "الجباية والضرائب والمكوس" بها قوام الدولة, غير أن هذه الإتاوات متى ما خرجت عن حدها فإنها تنقلب إلى ضدها, فتتحول إلى عنصر هادم لكيان الدولة, مُحفز للعصبيات الجهوية والنعرات المحلية, باعث على الإستقواء ضد الدولة, وعلى الجراءة على فكرة "الوازع", ذاك الذي يزع الناس بعضهم عن بعض.


   وفي ظل الفوضى التي تهز أركان الدولة التونسية, رصدنا تناقضا بين السياسة الجبائية للحكومة, وبين الواقع الاقتصادي والاجتماعي... بين حركة الأموال الخاضعة لرقابة الدولة , وبين حركة الأموال الخارجة عن نطاق الدولة في ما يطلق عليه بالتجارة الموازية, في أسواق معلومة في المدن الكبرى وفي جهات حدودية مثل بن قردان على الحدود الليبية.
   والحال مماثلة في القرى والمدن الحدودية بين تونس والجزائر, هي علاقات تاريخية لا يمكن للدولة أن تلغيها, أو أن تخضعها لرقابة صارمة طبق قانون الدولة ذاتها. بمعنى أن "التجارة الموازية" صارت أمرا واقعا على طول الحدود لا يمكن إلغاؤها كظاهرة اقتصادية واجتماعية أيضا, بل يجب العمل على تطويرها وتطويعها للمصلحة الاقتصادية العامة, مع الأخذ في الاعتبار بأن العمق الاستراتيجي للاقتصاد التونسي  ليس الاتحاد الاروبي, وإنما هو دول الجوار أي دول المغرب العربي.
   ويذهب المؤرخ وعالم الاجتماع "عبد الرحمان بن خلدون" إلى اعتبار ظاهرة الرفع في الضرائب وإثقال كاهل الناس بالإتاوات يؤدي حتما إلى خراب العمران وسقوط الدولة والتمرد على سلطانها, وأن تخفيف كاهل الناس في الخراج والمكوس يدفعهم إلى العمل وبذل الجهد والاستقرار, وينعش الاقتصاد وينمي القدرة على الإنتاج.
 ويبدو أن ما نصطلح عليهم بالتكنوقراط أو "الكفاءات الإدارية", أولئك الذين يختصون بالتخطيط لميزانية الدولة وضبط مواردها العامة, هؤلاء يتمتعون بدراية واسعة بالمسائل المالية للدولة, وهم الذين يقترحون على أهل الحكم والسياسة الحلول الممكنة في الجباية. غير أن خبراء المالية ليسوا على دراية دقيقة ب"أُم الأسواق" وبوسائل الإنتاج في الاقتصاد لأنهم سجناء في مكاتبهم بعيدون عن الممارسة الحقيقية للواقع الاقتصادي, نتحدث هنا عن كل الأعمال التي تنتج ثروة الأغنياء في المشاريع الكبرى أو تلك الأعمال التي تنتج قوت الفقراء.

وقد تبين أن الدولة قد اتخذت إجراءات لرفع قيمة الإتاوات الموظفة على سلع متنوعة, ونأخذ مثالا على ذلك وهو الترفيع في ثمن "التبغ", باعتباره ريعا تحتكره الدولة وتراقب تجارته, فإذا كان ثمن "علبة السجائر" يقدر ب4 دينارات, فإن المستهلك التونسي الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة أو الفقيرة لن يكون بمقدوره شراء علبة سجائر يوميا بمثل ذلك المبلغ المشط.
   وهنا يلجأ المستهلك إلى شراء "السجائر المهربة" لأنها أقل كلفة وتستجيب لإمكانياته المالية مهما خَبّروه عن مخلفاتها الصحية السيئة. وبالتالي يقل الإقبال على شراء "التبغ المحلي" الخاضع لرقابة الدولة, فتنشط التجارة الموازية وتحقق أرباحا على حساب المصلحة العامة.


   ويبدو أن خبراء المالية حين يتخذون قرارا في ترفيع المعاليم لا يدرسون الجانب الجغرافي للبلاد التونسية وموقعها الإقليمي, لأنه من المفروض دراسة أسعار دول الجوار وتقدير الأسعار المحلية كي تكون متقاربة مع أسعار دولتي الجزائر وليبيا.ومثاله أن يكون سعر علبة السجائر في حدود دينارين ليس أكثر.
   ثم إن الاستمرار في اتباع سياسة اقتصادية تقوم على أساس  الترفيع في نسبة الضرائب الموظفة على البضائع يؤدي حتما إلى تشجيع "التجارة الموازية", مثلما يؤدي إلى كساد التجارة الخاضعة للرقابة المالية للدولة. وتكون النتيجة أن آلاف علب السجائر المهربة تباع يوميا في أسواقنا, في مقابل ارتفاع خسائر الدولة في هذا القطاع.
   ولعل الحل الأمثل في تقديرنا يتطلب اتخاذ قرارات شجاعة وذلك بالتخفيض في الضرائب بصورة استثنائية إلى حين استعادة التوازن الاقتصادي للدولة, كتخفيض ثمن علبة السجائر إلى النصف, سيؤدي ذلك إلى  تشجيع التجارة القانونية ويساهم في تعديل الأسعار, وإنقاذ المؤسسات التي تنشط في إطار القانون وتؤدي واجبها الجبائي.
  ومن جهة أخرى فان المراقبين للنشاط التجاري في "الموانئ البحرية الكبرى" كميناء "رادس" التجاري يلحظ التراجع الواضح في رقم معاملاته لاعتبار وحيد هو انتفاخ مذهل في نسبة الإتاوات الموظفة على مختلف البضائع... وقد ذهب في ظن خبراء المالية أن الترفيع في الإتاوة التي تفرضها الدولة على البضائع الموردة سيكون مجلبة للمال, وقادرا على رتق الثغرة المالية في ميزانية الدولة, وهو تصور خاطئ لأن مثل تلك الإجراءات أدت إلى امتناع التاجر عن التوريد خوفا من الخسارة, أو أن يلجأ إلى التجارة الموازية خارج نطاق الدولة. وفي المحصلة فقد خسرت الدولة أموالا طائلة, بفعل التضخم الجبائي وكان المستفيد الأول هم تجار السوق السوداء بالأساس.


    وتنسحب ملحوظاتنا على كل أنواع التجارة ومختلف البضائع الموردة, مثل "الموز والتفاح" مثلا, والتي شهدت أسعارها ارتفاعا غير مقبول. أصبحت فيه تجارة التفاح حكرا على المهربين من ليبيا, وأصبحت مافيا الغلال الموردة تنافس الدولة في الجباية أيضا, هذه المافيا تقترح على التجار أسعارا أقل بكثير مما تفرضه الدولة في موانئها من إتاوات, وبالتالي تراجعت مداخيل الدولة في مقابل تكدس ثروات مالية طائلة عند مافيات التهريب.
   ولعل الحل الأجدى لا يكون باستنفار قوات الأمن والحرس والديوانة والجيش, لمواجهة شاحنات التهريب لأنه حل عقيم. فقد ثبت بالحجة والبرهان فشل هذه السياسة, بدليل اكتساح السلع المهربة لكل الأسواق التونسية... والحل في نظرنا هو أن تدخل الدولة في منافسة مباشرة مع المهربين وذلك بتخفيض الضرائب استثنائيا, وتنزيل المعاليم الموظفة على السلع من أجل تشجيع التجار على العمل وفق القانون, وسيؤدي ذلك إلى كساد مباشر للتجارة الموازية مع ارتفاع مداخيل الدولة بالضرورة.
   ومن الأمثلة الدالة أيضا, أن حاوية "قطع غيار السيارات" جديدة أو مستعملة, يتم تنزيلها في الموانئ الليبية الخاضعة للعصابات المحلية, وهذه العصابات تتكفل بإيصالها إلى تجار "بن قردان" الذين يلعبون دور الوسيط لتأمين وصول السلع, ويدفع التاجر مقابل ذلك بين 20 و30 ألف دينار عمولة من أجل توريد بضاعته خارج القانون, دون أن تحصل الدولة أية ضريبة في ذلك.


وفي المقابل فإن الحاوية الواحدة لقطع الغيار جديدة أو مستعملة تدفع أثناء عملية التوريد عبر ميناء رادس ما يعادل 100 ألف دينار , وهي ضريبة مشطة, تختزل السياسة الخاطئة في الجباية المالية, وتثبت أن الأزمة الاقتصادية الحالية ترجع إلى غياب الكفاءة الإدارية في التخطيط الاستراتيجي في مستوى وزارة المالية ووزارة التجارة. نتحدث هنا عن جيش من الإداريين والمدراء والتكنوقراط الذين لا يغادرون مكاتبهم ولا يعرفون الواقع الاقتصادي بعمق, حتى جاءت قراراتهم وكأنها تصب لمصلحة المهربين, أو كأنها تعمل من أجل هدم الكيان المالي للدولة دون قصد.
   هنا بإمكان الدولة أن تباشر بسياسات عاجلة واستثنائية, من أجل تخفيض الضرائب الموظفة على كثير من السلع والبضائع, أي أن تنافس تجار التهريب بواسطة تشريعات وقوانين ميسرة, فإذا ما تم ذلك, فإن تجارة التهريب سوف تختنق في ظرف شهر واحد... ومثاله أن تخفض الدولة معاليم الضرائب الموظفة على قطع الميكانيك إلى حدود 20 ألف دينار للحاوية , وكلما خفض تجار التهريب في عمولاتهم تعمد الدولة إلى التخفيض أيضا... وهذا كفيل بمعالجة الأزمة دون الحاجة إلى ترسانة من السيارات وموظفي الأمن والديوانة والجيش لمراقبة المسالك الحدودية, وسيؤدي ذلك حتما إلى مواجهة ظاهرة الرشوة والفساد والاحتيال في الموانئ التجارية.
  ثم إن التخفيض في مقدار الضريبة سينعكس مباشرة على القدرة الشرائية للمواطن التونسي, لأن الارتفاع الضريبي قد كان أحد الأسباب الرئيسية التي تسببت في التهاب الأسعار وإثقال كاهل الطبقات المتوسطة والمفقرة والكادحة.
   وعلى الدولة أن تراقب قطاعات تجارية حيوية تتصل بقدرة المواطن الشرائية وعليها أن تعدل الأسعار بمشاركتها في التوريد مثل عمليات توريد الخرفان أو توريد الحليب من أجل مواجهة الاحتكار.
   ونحن في هذا المقام إنما نُبدي الرأي ونحدث عن واقع اقتصادي واجتماعي متأزم, لأن التشريعات القانونية في مستوى الجباية تُوجه دائما لفائدة رأس المال المتوحش وتوفر له كل الامتيازات الجبائية... في حين أنه من الأجدى أن تتوجه تلك التشريعات إلى صغار التجار والمؤسسات المتوسطة من أجل دمجهم في الدورة الاقتصادية, دون المراهنة على الحلول الأمنية, وتشجيعهم على توريد سلعهم عبر الطرق الشرعية والقانونية.



   وهنا يأتي القرار السياسي باعتباره موجها للسياسات العامة للدولة, ورجل الدولة هو الذي يعدل تلك السياسات حسب الظروف, آخذا في اعتباره المصلحة العليا للدولة وضرورة تأمين الموارد المالية, دون الإضرار بالرعية في قدرتها الشرائية, إنه هذا السلطان الوازع, حافظ للناس في قوتهم وأموالهم وأرزاقهم.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire