mercredi 28 mai 2014

موسيقى الراب بعد الثورة... سيقولون "بذيئة" …سيقولون "مزاطيل"




موسيقى الرّاب...هل مازال هذا الفنّ من فنون الهوامش أم إنّه انتقل من الهامش إلى المتن ليمضي نحو المركز بعد أن كان في الأطراف ؟ هل يجدر بنا أن نواصل وسم هذا الفن بالفنّ المنحطّ في تعيير قيَميّ يستهجن المعجم المستخدم في هذا الفن والمعاني المحمولة  أو في تعيير فني يستنقص قيمته الموسيقية أو في تعيير طبقيّ يعدّه فنّا من فنون "الرّعاع والعامّة" وفق التّصنيف الطبقي العربي القديم أو فنّا من فنون "القاع الاجتماعي" أو "العالم السفليّ" ؟
إنّ الحضور اللّافت لهذا الفنّ في وسائل الإعلام التونسية بعد الثورة وفي الحفلات وما نعاينه من امتداد جماهيري واسع له يجعلنا نقرّ بأنّ هذا الفنّ لم يعد من فنون الهامش
ففي ظل التحولات السياسية التي تشهدها البلاد وبسقوط صنم الديكتاتور على يد أبناء الطبقة الفقيرة والوسطى كان لا بد لهذا السقوط المدوي من ارتدادات ثقافية تجسّد بعضها في الصعود اللافت لفن الراب الذي ظل يعتبر حاملا تعبيريا فنيا لأصوات المهمّشين لأنّه فقد ولد من رحم هذه الطبقة مضمخا بمعاناتها وكان لابد أن نصغي إلى صرخات هذه الفئة تتفجّر محطّمة جملة من "التابوهات"(المحرّمات) السياسية والأخلاقية وليس الأمر بغريب فالانفجار ليس إلاّ سليل كبت لأصوات الفقراء والمحرومين دام عقودا وقد راح هذا الفن يُعمِل معول الهدم لجملة من الحصون المنيعة ولعلّ أهمها


- هدم حصون التعبير والخطاب

لا يكتفي فنانو الراب باستعمال معجم خطاب يومي بسيط يوسم بأنه معجم غير شعري بل يتجاوزون ذلك إلى معجم يصنّف ضمن الخطاب البذيء لا يكتفي بالإيحاء الجنسي والمداورة اللغوية مثل استنجادهم بعبارات على شاكلة "التيت" وما اشتقّ  منها وما شابهها بل يتجاوزه إلى المباشراتية والتصريح في استعمال ما يدخل في باب المحظور اللغوي وليس الأمر بجديد عن مدونتنا الثقافية الفنية العربية  الحديثة حيث برز مظفر النواب في بالب الشعر من بين أهم من تجاسر على هذا المحظور اللغوي محمّلا إياه معاني ومواقف سياسية مبررا ذلك بالقول "أنا لست بذيئا لكنه القيء وصل الحنجرة" أو بالقول في موطن آخر

 " اغفروا لي حزني
وخمري وغضبي
وكلماتي القاسية
بعضكم سيقول بذيئة
لا بأس
أروني موقفا
أكثر بذاءة مما نحن فيه"

ولعلّ نفس التبربر نجده لدى مغنيي الراب(بشكل واع أو غير واع) فالمحظور اللغوي يصير مشروعا و مباحا فنيا وهو يستمد مشروعيته من رؤية تزعم أنّها تصوّر واقعا آسِنا تتحول فيه المفردة البذيئة أفضل حامل للتعبير عن الفساد السياسي والمالي والاجتماعي... وأفضل وسيلة لفضح الأسَن وتحدّيه والانتقام منه رمزيا بواسطة الخطاب
كما يجدون مبررا آخر يتمثل في ادعاء الانتساب إلى  "الحوماني" (الإطار الشعبي التونسي ) وحملهم لهمومه وتعبيره بنفس مفرداته      
هكذا يكون التصاق هذا الفن ببيئته وتحديه للعنف الاجتماعي والسياسي والمالي بعنف لفظي  رمزي شرطين من شروط وجوده ومحددين من محددات أدواته ووسائله التعبيرية


- تحطيم الحصون السياسية واستهداف قلاع البوليس المنيعة  

لم يعترف الراب التونسي منذ الثورة خاصة بحصون النخب السياسية ولا بحصانة أهم رموز الدولة لذلك لاحقته تهمة المس من هيبتها لأنه لم يتورع عن توجيه "الكلاش" الغنائي إلى الأحزاب أو النواب أو إلى رئيس الجمهورية في أشخاصهم أحيانا وقد عبر مغنوه عن انطباعات وعن مواقف شعبية منتقمة لنفسها من سنوات الديكتاتورية الآفلة , سنوات محاصرة التعبير ومطاردته التي جثمت على الصدور عقودا ورفعوا سقف الحرية والتمرّد إلى مدى بعيد...
  كما تجرّأ  مغنو الراب على خدش الجدران المنيعة لقلاع البوليس بأظافر أغنياتهم تلك القلاع التي ظلّت لسنوات مصدر رعب للتونسيين "من اقترب منها" (ومن لا يقترب) أحيانا مفقود... ويبدو أنّ هذي الجدران التي غيرت طلاءها بعد الثورة رافعة شعارات الأمن الجمهوري لم توفّق بعد في تغيير صلابتها فلم تستسغ في أحيان كثيرة كلمات الراب التي لطّخت قداستها ولم توفّق في التعامل مع مغنّيه إذ ارتدّت أحيانا مقشّرة طلاءها "الجمهوري" فرأيناها-مثلا- تلاحق مغنّيَي الراب على خشبة مسرح مهرجان الحمامات...


- تحطيم قيَم اجتماعية

لئن كان الكثير من مغني الراب موصومين بالتعدي على بعض القيم والثوابت الاجتماعية كتعاطي مخدّر "الزطلة" فإنّهم لا يجدون ضيرا في التغني بأنّهم "مزاطيل" في تمرّد معلن على قيم اجتماعية سادت وجعلت اسم "الزطلة" لزمن طويل اسما سرّيا ومدعاة للخجل والخوف.
 وبعيدا عن اتخاذ موقف قيّمي من ذلك لعلّنا لا نجدنا نجانب الصواب إن قلنا أنّ هذا التغني لا يعدو أن يكون كشفا  لجمر ظلّ ثاويا تحت الرماد "فالمزاطيل" ما فتئوا يمثلون طائفة كبرى من الشباب الذين أسهمت سياسات "بن علي" التي كبتت أصواتهم الساسية ومشاركاتهم المدنية الاجتماعية ممّا جعل بعضهم يصعّد مكبوتاته عبر قنوات التمرّد على قيم المجتمع وأخلاقه كما أسهمت عائلة المخلوع والعصابات التي أحاطت بها في توفير "القنب الهندي" لغايات ربحية وهكذا تمّ تغييب الشباب المهمش عن المشهد السياسي والحراك المدني كما تمّ الاتجار فيه مما جعل الكثيرين يطاردون أوهام التمرّد والثورة على السائد ليعلَقوا في دخان "الجونتة" ويعسر عليهم الخلاص منه ومنها.
فأغنيات "المزاطيل" في "الراب" إذن  ليست اصطناعا لواقع جديد بل هي تعبير عن أمر واقع موجود.
 وتبعا لذلك يمكن أن نخلص إلى النتائج التالية
*أولا: لم يعد الراب فنا هامشيا في هذه المرحلة وإن كان مايزال يُعتبَر لدى الكثير من مغنيه   فنا ناطقا بلسان المهمّشين الذين أسهموا بدور في إسقاط المخلوع ولعل ذلك مادعا بعض أصحاب المال ممن يمارسون السياسة يحاولون استئجار أصوات بعض مغني هذا الفن من ذوي الصيت الذائع والجمهور الواسع في محاولة متجددة من رأس المال  لاختلاس كل ما يملكه الفقراء وما ينتجونه حتى أصواتهم (بالمعنيين الفني والانتخابي)
كما أنّ بعض الأحزاب نجحت في استثمار هذا الفن واستقطاب بعض فنانيه مما جعل المشتغلين بالراب أنفسهم يتندّرون بالأمر فيصنّفون فنهم إلى
"راب حلال و راب حرام " (أمّا الحلال فيقصدون به ماذاد عن الترويكا ورأسها "النهضوي" وأما الحرام فالمقصود به ما ناوءها ولم يوافق أهواءها)   
*ثانيا: إنّ الراب صار يمثل عنصرا على قدر من الأهمية من عناصر الحراك الثقافي لا يمكن التغاضي عنه وإن سعى البعض إلى الحط من شأنه لدواع طبقية أو فنية أو سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو حتى "أمنية"...

*وأخيرا: لعلّ استمرار الاهتمام الشعبي بالراب وتواصل إشعاعه و تحوله إلى فن من فنون المتن بعد أن كان من فنون الهامش محكوم بمدى التزام فنانيه بأسباب وجوده وبأسباب اتساع قاعدته الجماهيرية هذه الأسباب المتمثلة أساسا في حمل هموم المهمشين والفقراء وفي التعبير عن أحوالهم بلسانهم....

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire