mercredi 12 septembre 2012

العسكر والسياسة في تونس





استعاد الجيش التونسي رأس ماله الرمزي بعد الثورة...وأثبت أنه مؤسسة تمثل القاعدة الصلبة للدولة.... هو جيش حاضر في السياسة غائب عنها بحكم الاختصاص بيد أنه فاعل رئيسي فيها...
   حين سقط النظام في تونس في  14 جانفي, كان الفراغ في هرم السلطة مخيفا يؤذن بالخراب , فوضى عارمة نهب وسلب , مشهد سياسي غامض. هنا ظهرت مؤسسة العسكر كضامنة للسلم الأهلي ولاستمرار وجود الدولة ... استعاد الجيش حضوره في الساحة السياسية وأصبح عاملا من عوامل الاستقرار وحفظ التوازن بين الأحزاب ومختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية ... وتأكد هذا الدور حين قامت القوات العسكرية بالإشراف على استعادة الأمن العام وفرض قانون الطوارئ, وكذلك حين أمن الجيش انتخابات 23 أكتوبر 2011 في حرفية ونزاهة  ... ثم إن جيشا يلتزم الحياد في صراع نظام دكتاتوري ضد شعبه ليس أمرا هينا, هو ولا شك موقف وطني من الحجم الثقيل وسابقة في العالم العربي أحرجت الجيش المصري في ما بعد, ورسمت طريقا جديدا ممكنا لجيوش تنحاز إلى شعوبها المقهورة. ليس الجيش التونسي في حجم الجيش المصري إلا أنه عسكر منظم وموال لقيادة هرمية متجانسة, أثبتت تبنيها لقيم وطنية حين اتخذت مواقف حاسمة في لحظات حرجة ... قد خشي البعض من تدخل الجيش في السياسة حين هرب "بن علي" وظن آخرون أن المؤسسة العسكرية ستستولي على الحكم, غير أن تطور الأحداث أثبت أن الجيش التونسي معني بتأمين نجاح التجربة الديمقراطية في تونس, وأن تصور البعض لإمكانية تدخل الجيش في السلطة إنما يعكس رهابا من قوة العسكر لدى البعض. أو يبطن رغبة فئة أخرى في توظيفه من أجل وأد تجربة ديمقراطية  قد تفقدها حضورها في الركح السياسي...

 
دولة الاستقلال والعسكر 
       كان "بورقيبة" متخوفا من العسكر في زمن كثرت فيه الانقلابات,  وقد كان الانقلاب  دائما صنيعة من صنائع العسكر لأنهم يتحوزون قوة التدمير والغلبة , وكانت خشية الزعيم  مبررة خاصة بعد المحاولة الانقلابية لمجموعة "الأزهر الشرايطي" سنة 1962 , فاتخذ موقفا سلبيا وحذرا من الجيش,  وأبقى هذه المؤسسة بعيدة عن السياسة. ثم حافظ  خلفه "زين العابدين بن علي" على تلك السياسة في التعامل مع القوات المسلحة طيلة حكمه. إلا أن ذلك لم يؤثر على العسكر باعتباره جهازا يمتلك أكبر قوة سلاح داخل الدولة. ...وحين تحقق الاستقلال بنيت عقيدة الجيش على تصور مغلوط للعدو الخارجي المفترض, لقد تحولت الحدود البرية مع الجزائر وليبيا الى مصدر محتمل للاستعداء , وكان "بورقيبة" فرونكفونيا ولم تكن له مرجعية لوعي قومي عروبي أو إسلامي يحدد على أساسه عدوه التاريخي ويدفعه إلى بناء جيش قوي لحماية كيان دولة تقع في قلب المتوسط.                                                                                         
    في أحداث قفصة سنة 1980 انكشف للجميع ضعف العتاد المتوفر للجيش, وصعوبة التعامل مع مجموعة من الأفراد المسلحين وسهولة اختراق مدينة "قفصة". غير أن النظام لم يغير استراتيجيته في كبح جماح الجيش, فقد اختزل دوره في التدخل الأمني حين تعجز قوات الشرطة أو الحرس في أحداث قفصة  والاحتجاجات الاجتماعية عام 1978 وانتفاضة الخبز سنة  1984 . وخلال سنة 2006 أثبت الجيش جاهزيته في حسم المعارك الصغيرة في واقعة "سليمان و عين طبرنق"... تدخل الجيش وقت الأزمات الداخلية  بقوة لفرض النظام وهيبة الدولة, وكان يمثل العمق الاستراتيجي لمفهوم القوة التي تحتكره هذه الدولة, القوة المدمرة والنائمة, واقتصر دوره في المقابل على تنمية الصحراء والتدخل في الكوارث الطبيعية ومراقبة الحدود أو المشاركة في بعثات حفظ السلام الأممية


     لقد أعاد "الزعيم الحبيب بورقيبة" تأسيس الجيش التونسي بعد الاستقلال غير انه حرص  على إبقائه ضعيفا بتعلة المراهنة على التعليم عوض إهدار الأموال في التسلح حسب رأيه . و"بورقيبة" كان يؤمن كذلك بفكرة الإحتماء تحت مظلة القوى الكبرى وجواز التحالف معها ... فبقي الجيش قليل العدد والعدة ولم يشكل وزنا إقليميا له تأثير في السياسية الخارجية. في وقت تحولت فيه دول مثل ايران وتركيا والجزائر والعراق إلى قوى عسكرية إقليمية. ولعلنا نرى أن التنمية والتقدم وتطور التعليم والاقتصاد ليس مفصولا عن تطور الجهاز العسكري, وفي تصورنا فإن سياسة "بورقيبة" كانت خاطئة في حق الجيش التونسي وأفقدت الدولة التونسية هيبتها لهذه الجهة ... فدولة صغيرة مثل إسرائيل تطورت وتقدمت على جميع الصعد وكذا شان إيران وتركيا...
    إن الجيش التونسي لم يكن جيشا محاربا بل هو جيش محترف فيه إدارة مكتملة البناء وضباط تلقوا تعليما عسكريا حديثا بيد أنهم بلا أنياب. لم يخوضوا حربا ولم يقاتلوا في ميدان. وفرضت عليهم الدولة حصارا داخل الثكنات, ولعل الأوان قد حل من أجل إعادة النظر في العقيدة العسكرية للجيش التونسي كي يكون في المستقبل قوة ضاربة ومحاربة لها وزن إقليمي فعلي يدعم الحضور الخارجي لسياسة الدولة ... على أن تحجيم المؤسسة العسكرية زمن "بورقيبة" أو زمن "بن علي" وعزلها عن دائرة الفعل السياسي وتهميشها أحيانا أخرى قد كان عامل قوة يحسب لفائدتها زمن الثورة, ظلت مؤسسة تتمتع بشعبية واسعة بعيدا عن كل مظاهر الفساد, ثم تعززت برأس مال رمزي في أعماق الضمير الجمعي للتونسيين وهم ينحنون بالرؤوس احتراما لأولئك الجند  الذين  وقفوا لحماية وطنهم زمن المحنة.....


العسكر في تونس ومصر:
    إن هذه المقارنة تستند إلى مشاركة متشابهة للجيشين التونسي والمصري في ثورات بلديهما. إذ كان السبق الزمني في تجربة الثورات العربية للجيش التونسي بحكم تقدم الثورة التونسية على نظيرتها في مصر, وقد أنجزت القيادة العسكرية عملا على غير مثال, وكان تحول السلطة من حكم أحادي استبدادي  إلى الحكم بإرادة الشعب تحولا مرنا بأخف الأضرار بفعل تدخل الجهاز العسكري .. وقد أحرج هذا الصنيع الجيش المصري في ما بعد فانتهج ذات الأنموذج إلا أنه سرعان ما اختلف عنه . كان الجيش التونسي محكوما بهرمية  قيادية تنتهي سلسلتها عند وزير دفاع مدني يرافقه قائد أركان جيش البر الفريق أول "رشيد عمار", الذي أسندت إليه بعد الثورة مهمة قيادة الجيوش الثلاثة وذلك من أجل توحيد القرار العسكري بعد أن أصر نظام "بن علي" على أن يجعله شتاتا وتابعا . والملاحظ هنا أن "زين العابدين بن علي" قد تخرج من هذه المؤسسة العسكرية بيد أنه سرعان ما تنكر لها وفقد ثقته فيها, وغلب عليه اختصاصه الأمني حتى فقد عسكريته.
   في المقابل فإن المشير "الطنطاوي" كان جنرالا ووزيرا للدفاع, وكانت السلطة مجمعة عند المجلس العسكري الذي يضم كبار الجنرالات المصريين , وهم قادة فاعلون ومؤثرون في القرارات المصيرية , ويبدو أن المؤسسة العسكرية في مصر قد أرادت التدخل في الشأن السياسي بعد الثورة, فأصدرت مراسيم مقيدة للرئيس الجديد, وأشرفت على تجميد عمل برلمان منتخب, وساندت بقوة ترشح "أحمد شفيق" العسكري السابق وابن النظام القديم وسعت لإعادة إنتاج قائد جديد لمصر من داخلها هي  . ولم يكن يسيرا على أولئك العسكر أن يتخلوا عن دورهم التاريخي في الحكم . وحين توفرت إرادة سياسية فاعلة لرجل ثابت وصلب ومدعوم شعبيا جازف "محمد مرسي"  بحركة سياسية فيها كثير من المغامرة والمخاطرة فأطاح  بالطنطاوي وبالمجلس العسكري معا موظفا  ذلك الحراك الشعبي الملتهب في مصر ... الجيش المصري عسكر صنع للحرب وامتلك تجربة طويلة في القتال ضد الجيش الاسرائيلي مثلما تحوز عددا ضخما من الجند والعتاد غير أنه بقي عاطلا طيلة حكم الرئيس "حسني مبارك" وفقد جزءا من جاهزيته
   وقد دأب العسكر في مصر على ممارسة السياسة بل كانت مؤسسة لصناعة القادة السياسيين "محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك". عسكر مصر حصلوا تجربة من خلال الحروب المضنية ضد إسرائيل في سنوات  1948  و1956  و 1967 و1973  وهو جيش يصنع جزءا هاما من عتاده ومؤونته, لأنه قد تخصص للحرب في مواجهة القوى الخارجية, ولعل صحراء سيناء وقنال السويس وخط "بارليف" الشهير, يشهد جميعها على تلك الخبرة القتالية العالية سواء في الهزائم أو الانتصارات. وقد تأسست عقيدته على فكرة قومية اجتزأت في مفهوم الأمة العربية ورسخها الزعيم "جمال عبد الناصر", ثم تبدلت تلك العقيدة وأفرغت تماما من بعدها القومي المحارب وتحولت إلى فكرة الهدنة ومنطق السلام وفق الرؤية الأمريكية ومع السادات.  بل تحول هذا الجيش إلى قتال الجيش العراقي في حرب الخليج الأولى عام 1990  بأمر من الرئيس حسني مبارك... ثم جاء القرار السياسي الأخير الذي اتخذه "محمد مرسي" جريئا وممتلئا بالدلالات السياسية, وشاهدنا جيشا متحررا من كل القيود ينتشر بقوة في شبه جزيرة سيناء مندفعا ليستعيد سيادة مسلوبة منذ سنة 1979  وليغير في الأرض تلك القيود المدونة في اتفاقية "كامب دافيد"....

  
      أما الجيش التونسي فلم تقم عقيدته السياسية في مواجهة القوى الخارجية على مرجعية قومية أو دينية بمعنييهما السياسي, لقد كان أقصى ما سمح له به  أن يحمي الحدود مع الجزائر أو مع ليبيا, ولم تكن سياسة الدولة زمن "بورقيبة" أو "بن علي" تؤمن بفكرة التأثير في المجال الجغرافي والإقليمي والسياسي,  ولم تؤمن  يوما أن الدول الأوروبية أو الحلف الأطلسي أو الولايات المتحدة الأمريكية هي دول عداء ... وفرض على الجيش التونسي أن ينكمش خلف عباءة القوى الإقليمية فيمنع من القيام بأي دور في محيطه الجغرافي والسياسيفوقع الجيش بين خشية رجل السياسية منه في الداخل ومن إمكانية تدخله في تصريف شؤون الحكم, وبين إصرار القوى الدولية على إضعاف فاعلية المؤسسة العسكرية في الحوض الجنوبي للمتوسط  لاعتبارات إستراتيجية... لقد كان القصف الإسرائيلي على حمام الشط عام  1985 مهينا ومخزيا في غياب التجهيزات, حين عجزت الطائرات والدفاعات الجوية التونسية عن التصدي لمواجهة سرب من الطائرات الإسرائيلية.. وحاول "بورقيبة" أن يحول تلك المهانة العسكرية التي كانت سياسته  سببا في وقوعها إلى نصر ديبلوماسي في مجلس الأمن. غير أنه كان نصرا زائفا لمهزوم ضعيف كانت أقصى مطالبه رفع الأيادي في الأمم المتحدة لإدانة المعتدي



العسكر في ثورة 14 جانفي :
     بدأ تدخل الجيش في الأيام الأخيرة لحكم "بن علي" وجاءت الأوامر إلى القوات العسكرية  بالانتشار حول النقاط الحساسة للمنشئات العامة والسفارات الأجنبية . وكان الرئيس حذرا من أي تدخل للعسكر, وحين تهاوت الأجهزة الأمنية وفقدت فاعليتها بعد شهر من الاستنزاف إزاء تمرد شعبي واستعصاء مدني, جاء تدخل الجيش كآخر الحلول التي يستخدمها النظام لحماية كيانه وقمع الانتفاضة وإعادة التذكير باحتكاره لقوة النار والتدمير. ولم يعتقد أبدا أن هذا الفاعل العسكري الحاسم يمكن أن يخذله وقت الأزمة, غير أن التزام الجيش بالحياد في الصراع وامتناعه الفعلي عن حماية نظام استبدادي خاصة حين انتشرت قوات الجيش بالحاضرة بتاريخ 11 01 2011 وتزامن ذلك مع صدور تعليمات صارمة  من قائد أركان جيش البر إلى كل الوحدات العسكرية بالالتزام بقواعد فتح النار وفق ما ينص عليه قانون الطوارئ وبما يتطابق أيضا مع قوانين القوات الأممية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة, كانت تلك الأوامر إيذانا بامتناع الجيش عن استعمال السلاح لحماية النظام أو لقمع الحركة الاحتجاجية ... ورشحت أخبار عن تصادم حقيقي بين "رشيد عمار" وبين "علي السرياطي" قبل ثلاثة أيام من سقوط بن علي في أروقة وزارة الدفاع أثناء اجتماع خاص. لذلك تأول البعض حينها أن الجنرال "رشيد عمار". قد قال :  "لا",  "لبن علي". و بتاريخ 12  جانفي  2011 ,  صدرت تعليمات جديدة تأمر الجند بالاستعداد للقتال و"الذود عن حرمة الوطن من كل عدوان داخلي أو خارجي" . وقد خلا ذلك الخطاب العسكري الحماسي من أي دعوة لحماية "بن علي" أو نجدة لنظامه. وهذا الحياد كان في العمق رفضا لفكرة إسناد الرئيس, ومساندة ضمنية لحركة احتجاجية قامت ضد الظلم والقهر. ثم استطاع العسكر إنهاء الأزمة بإيجاد مخرج لرأس السلطة المتهاوية  وحقن الدماء, وإلقاء القبض على أفراد عائلته المورطين في قضايا فساد, وتجنيب البلاد مخاطر التناحر على السلطة, كل ذلك كان عملا حرفيا متميزا نراه نحن أكبر من الإمكانيات الحقيقية للجيش التونسي الذي كان متواضع العدد والعدة غير أنه أنجز مهمته بما يشبه عملية جراحية دقيقة في أخطر محنة تمر بها البلاد التونسية


   ثم إن قراءة عميقة في دلالات التزام الجيش بالحياد أثناء الاضطرابات يفضي بنا إلى أن قيادة الجيش قد اختارت موقفا غير داعم لرأس الحكم. ولو اتخذت قرارا بإسناد النظام لأخمدت الثورة أو لسفكت دماء كثيرة أو لخربت ديار وبيع مثلما وقع في ليبيا أو في سوريا لاحقا ... كان الجهاز العسكري مدربا على الانضباط الصارم لتعليمات القائد العسكري في تطبيق حرفي للتعليمات أو ما يسميه العسكريون  بالإيعاز  لذلك أوقف "علي السرياطي" دون تردد أو ترمرم وحبست عائلتي "الطرابلسي" و"بن علي" داخل ثكنة العوينة... وقد كان لتلك الثكنة  دور هام في السيطرة على الأوضاع بالعاصمة و في حسم المعركة قبل أن تبدأ. إنه دور جدير بالبحث والدرس : ما هي الأدوار الحقيقية التي اضطلعت بها تلك القاعدة العسكرية الإستراتيجية في إنهاء حكم "بن علي" ؟
     كان التنسيق بين القيادات العسكرية والأمنية منظما وفق نصوص قانونية وترتيبية إلا أن التطبيق على أرضية الميدان كان شبه مفقود. وكان يوجد تنافس ضمني بين المؤسستين وقد شجع النظام على تنامي الكراهية بينهما . ظلت المؤسسة الأمنية بكل تشكيلاتها منفصلة تماما عن الجيش طيلة عقود متعالية عنه مستقلة بإطلاق رغم أن قطاعا من ضباطها تخرجوا من الأكاديمية العسكرية , وكان لوزارة الداخلية  اليد الطولى على العسكر خاصة منها جهاز أمن الدولة منذ انقلاب مجموعة "الأزهر الشرايطي" سنة 1962 التي شارك فيها عسكريون , واعتقالات العسكريين في ما عرف بقضية "براكة الساحل" عام 1991 ...
   بعد هروب "بن علي" ارتبكت قوات الأمن وفقدت السيطرة الميدانية وغابت القرارات التي تصدرها القيادة الأمنية الموحدة مثلما غابت روح المبادرة, فقد كان القبض على "علي السرياطي" حاسما في إضعاف كامل المنظومة الأمنية القديمة التي كانت تخضع بإطلاق لمؤسسة الرئاسة, هنا تحرر الجهاز الأمني من عقدة الخوف, عقدة تشكلت مع إنشاء جهاز أمني خاص في الرئاسة هو فوق الأمن والجيش وانتقلت المؤسسة الأمنية من الولاء للنظام إلى الولاء للشعب ... كان هنالك صراع حقيقي يدور في الكواليس بين قيادات أمنية عليا تريد دعما من الجيش لإنقاذ النظام , وبين قيادات عسكرية منضبطة للقانون ولمبادئها العسكرية في حماية الوطن وليس حماية الأشخاص, كانت قوات الأمن قد استنزفت وأنهكت مثلما أنها قد تراخت في التصدي للاحتجاجات لأن أفرادها ينتمون إلى الطبقات الكادحة والمضطهدةفي المقابل كان الجيش متماسكا  ومستنفرا حافظ على حياد إيجابي في الصراع الدائر بين الشعب وبين نظام قهري متسلط ... هنا أصبح الجيش مسؤولا عن مصير كل البلاد ... ويجب هنا أن نعيد رسم تلك المشاهد للقيادات الميدانية العسكرية وهي تنتشر في أحياء العاصمة وتطارد اللصوص والسراق وتبحث عن عدو مفترض بلا هوية ...ومن الضروري أن نتمثل أيضا ما كان يدور في قاعات العمليات ومن يتخذ القرار الحاسم وكيف ينفذه, أولئك الضباط والجنود الذين قضوا الأسابيع الأولى للثورة منتشرين على مساحة جغرافية واسعة وممتدة داخل المدن والقرى والأرياف وعلى الحدود.....



   واجه الجيش في البداية مشكلة رئيسية إنه لا يعرف عدوه لأنه لم يكن بصدد مواجهة جيش منظم لعدو مفترض ... إنه يطارد اللصوص وأصحاب المصالح المرتبطة بالنظام السابق والرافضين لهذا التغيير المفاجئ في أعلى هرم السلطة ... كان معلوما أنه توجد حول عائلتي "الطرابلسي" و "بن علي" دوائر من المصالح المتشابكة في الاقتصاد والأموال والأعمال ممن يرفضون إسقاط النظام القائم لارتباط مصالحهم الحيوية به, وكان هنالك مرتزقة من حولهم من أهل الفتوة و"البلطجية" اختصوا بحمايتهم وترويع خصومهم وكانوا فوق القانون خاصة في بعض الأحياء المحيطة بالقصر الرئاسي وقصور العائلة. هؤلاء نقصد أصحاب المصالح والمرتزقة اختفوا من الحياة العامة فجأة إلا أن ذوبانهم ترافق مع إشاعات مؤكدة عن تهريب أموال أو سيارات تطلق النار على الناس من أجل ترويعهم ... ثم إن عمليات حرق منظمة لبعض المؤسسات مثل الفضاء التجاري  "جيان" تثير الحيرة .....  من بادر بذلك ؟ من حاول التصدي لقوات الجيش في فرضها لقانون حالة الطوارئ ؟  هل يمكن البحث عن أجوبة لهذا الغموض الحاف ببعض المواجهات المسلحة التي دارت بين الجيش وبين بعض العناصر ممن رفضوا في البدء الخضوع لسيطرة الجيش الميدانية ؟  وجاء إيقاف صاحب قناة تلفزية على خلفية ما بثته قناته من أخبار تتعلق ببث الفوضى وإرباك الأمن العام  والتآمر على أمن الدولة ونشرها  لإشاعات ساهمت في إدخال البلاد في حالة من الفوضى العارمة, ثم أطلق سراحه لاحقا دون تعليل مقنع... 
   تدخل الجيش بقوة "للدفاع عن حرمة الوطن" الذي ترنح سياسيا وأمنيا واقتصاديا, وضرب بقوة من أجل فرض "حظر الجولان" أو من أجل "تفعيل قانون الطوارئ",  سقط بعض الضحايا وكان هذا ضروريا ومتوقعا من أجل حماية الوطن. والذين قتلوا برصاص الجيش كانوا مخالفين بالأساس لقانون الطوارئ أو مستهترين بدلالة خروج الجيش من ثكناته أو قتلوا خطأ... لم يدرك أهل تونس معنى أن يتسلم الجيش مقاليد الأمور, وأن يخضع  الجميع  لسلطة العسكر وأن من يخالف قانون الطوارئ يكون عرضة لإطلاق النار, إنها حالة الطوارئ في أعلى درجاتها. وقد افتقد المدنيون للثقافة العسكرية اللازمة باعتبار أن الدولة كانت قد تخلت عن فكرة التكوين العسكري لشبابها وراهنت على ما سمي ب"التعيينات الفردية" بمعنى أن يدفع المجند أموالا للدولة لقاء إعفائه من الخدمة العسكرية, كانت جباية على الرؤوس لم تعر اهتماما لفكرة الأمن القومي وإلى ضرورة التكوين العسكري لأجيال بأكملها....
      وقد دفعت هستيريا سقوط الطاغية بالبعض إلى محاولة المغامرة مع وحدات الجيش المنتشرة في ما يشبه الرقص مع  البنادق, في محاولة النهب والفوز بغنائم الحرب, أو هو الاحتفاء بضعف الدولة وتحلحل قوتها, أو رفضا لخروج "بن علي" لدى بعض الخاسرين عند قيام الثورة... كان الإنسان الفرد وهو يتمرد على الدولة يستعيد في انتشاء ما سلبته منه تلك الدولة, أي قدرته على ممارسة إرادة القوة وإنتاج العنف الحيواني ضد الإنسان الآخر أو هو استدعاء لمقولة "حرب الكل ضد الكل"... جاء الرد على تلك الفوضى من قبل القوات المسلحة عنيفا وقويا خلال الأيام الثلاثة الأولى, وكانت هذه الصرامة مطلوبة , صفق لها الجميع في محاربة اللصوص والعصابات والهاربين من السجون والبلطجية في الأحياء الشعبية وفلول النظام السابق .. ونحن هنا نفرق تماما بين من قتل في مواجهة آلة قمع بوليسية زمن "بن علي" وهو يكافح نظاما استبداديا قهريا ويطمح إلى الحرية والعدالة, وبين من مات مستهترا وهو يخرق قانون الطوارئ وحظر الجولان أو كان ينهب أو يسلب أو يعتدي على الناس أو على مقرات السيادة بعد سقوط النظام


    : الجيش في الشبكات الاجتماعية
   عندما نستقرئ منزلة العسكر في الشبكات الاجتماعية نرى بعض المزايدات التي تصدر عن بعض الأطراف في حق المؤسسة العسكرية, وهؤلاء مطالبون بمعاودة الذاكرة أيام الثورة, حين تلقف الجيش وطنا يتهاوى وأعاد بناء مؤسسات تفككت, وكان خير نصير زمن المحنة, ولم يكن لتلك الاحتجاجات أن تطيح بالرئيس وبأخف الأضرار  لولا حسن التدبير وحصافة الرأي في إدارة الأزمة ونحن نقصد هنا قطعا شخص الجنرال "رشيد عمار" ومن يساعده في القيادات العسكرية.
    ونحن نلحظ أيضا في شبكات التواصل الاجتماعي مواقف متعارضة من العسكر, فطائفة واسعة تعبر عن مواقف فيها اعتراف بعظيم ما صنع الجيش أيام الثورة, في مقابل بعض الأطراف التي تشن حملة على الشبكات الاجتماعية اختصت بمهاجمة المؤسسة العسكرية  وقيادتها. إنها حملة لها دوافع محددة  وخلفيات مريبة,  تلتقي فيها المصالح الذاتية الضيقة للبعض مع شعور بعض أحلاف المنظومة السياسية القديمة بأن الجيش هو سبب هزيمتهم في الثورة حين سرع سقوط النظام ... لذلك اتخذوه عدوا في العالم الافتراضي وطفقوا يكيلون له السباب والشتائم في خطاب مشحون... مثلما أن بعض المزايدين في المسألة الحقوقية يعتقدون أن الجيش ليس مقدسا وهي مؤسسة حرية بالنقد , ومثل هذا الخطاب في باطنه مغالطة لأن المؤسسة العسكرية ليست مقدسا متعاليا عن كل ما هو إنساني بل هي تتشكل من مجموعة من الأفراد ينتمون إلى مجتمعهم, وهم جزء منه ويتبنون قيما وأفكارا وثقافة مشتركة .. الجند في المنتهى انتخبوا  للدفاع عن نمط العيش الذي اتفقت عليه المجموعة الإنسانية, هم متراس الدولة وقاعدتها الصلبة التي متى انكسرت فإنه الخراب والفوضى.....
    ثم إن محاولة جذب العسكر إلى مجال الصراعات السياسية بين الأحزاب والإيديولوجيات خاطئ أيضا, لأن الجيش مطالب باحترام الشرعية وبحمايتها كذلك. وفي نظرنا فإن العسكر عليم بالسياسة كذلك  دون أن يتدخل في الصراع بين الفاعلين السياسيين, وهو معني بالشأن ألاستخباري والأمني. ومثل حادثة تسليم "البغدادي المحمودي"  الوزير الليبي السابق إلى بلده الأصلي فيه حماية للمصالح العليا للوطن ... وحتى التعلل بمواقف بعض الحقوقيين فإنه مبتور لجهة أن الرجل ليس مناضلا حقوقيا بل هو مطلوب للعدالة في بلده باعتباره جزءا من منظومة القمع والاستبداد القديمة في ليبيا, وليس من مصلحة بلد مثل تونس أن تحمي من الناحية الأخلاقية مجرما كان أحد أعمدة 
 نظام استبدادي....



قضية أيوب المسعودي:  
  وقد  أثارت قضية "أيوب المسعودي" بعض الجدل السياسي حول المؤسسة العسكرية في تونس, فالرجل كان مستشارا لدى رئيس الجمهورية وشغل خطته حديثا منذ بضعة أشهر مكلفا بالإعلام. هو شاب في الثالثة والثلاثين من العمر, وليس له أي ماض سياسي أو نضالي معروف, هو غفل من الناحية السياسية وليست له دراية بالإعلام والصحافة ولا يعدو أن يكون مختصا في الهندسة المعلوماتية... وقد جاءت تصريحاته في نقد موجه لقيادة الجيش في شخص قائد الأركان الفريق أول "رشيد عمار" ووزير الدفاع "عبد الكريم الزبيدي". كان هذا النقد حادا وعنيفا في خطاب شفوي وصل حد الاتهام بالخيانة سواء كانت خيانة أخلاقية أو سياسية, خيانة دولة أو خيانة وطن. وما يلفت الانتباه أن هذه التصريحات قد أدلى بها صاحبها بعد أن استقال من وظيفته بقصر قرطاج , ولم يصرح بها في أوان وقوعها حين كان مستشارا مباشرا لوظيفته... لماذا اختار "المسعودي" هذا التوقيت الزمني تحديدا لمثل تلك الأقوال؟  وما أهداف هذا الخطاب الصدامي؟  هل إن استقالته كانت بدافع شعوره الإنساني الحاد تجاه "البغدادي المحمودي" ؟  أم هي استقالة بسبب اكتشافه المتأخر لزيف المنصب المسند إليه وفقدان القصر لأبهة الرئاسة التي كانت زمن "بن علي", بعد أن أضحى خاليا من الصلاحيات؟  ما الذي أنجزه المسعودي في القصر منذ توليه لمنصبه تحديدا ؟... الحصيلة لا شيء, بل نكاد نجزم أننا لم نسمع له ركزا...ويبدو أن رغبة ذاتية وخفية لدى هذا المدون الشاب في خوض مغامرة إعلامية تحقق له شهرة وبطولة زائفة يبحث عنها كتلك التي حصلها فرحات الراجحي في بداياته وسرعان ما انطفأت هي وانطفأ هو... إنها تصريحات لا تعدو أن تكون فرقعة لألعاب نارية خواء تثير ضجيجا إلا أنه بلا معنى, كان غرضه الحرص على الظهور الإعلامي وإثارة انتباه الرأي العام إلى اسم جديد ينضم إلى طبقة سياسية تدور في  فلك خطاب سياسي فقير لا ينتج أفكارا بقدر ما يبحث عن السلطة
   جاء رد فعل العسكر هادئا وصارما في آن واحد... . فالتجأ إلى المحكمة العسكرية لتتبع صاحب التصريحات وفق مقتضيات القانون الذي يسير الدولة المدنية ويحدد علاقة المدنيين بالعسكريين بما يؤكد أن الجيش يعمل وفق آلة قانونية تحدد علاقته بالمؤسسات وبالأفراد, هو خطاب قانوني للجيش يسعى إلى محاصرة خطاب شفوي مدني يتمرد على الطقس العسكري بشكل مشحون وفاضح شكك في أخلاقية المؤسسة وفي من يقودها ... ثم إن موضوع "البغدادي المحمودي" قد اتخذته فئة من الطبقة السياسية مطية للمزايدة السياسية, وانشقوا في ذلك إلى فريقين :  فريق أول يرى أن الدولة الليبية لا يتوفر فيها قضاء مستقل ومؤسسات قانونية تحفظ الحد الأدنى لحقوق الإنسان لذلك فإن الدولة التونسية مطالبة بحماية الرجل ... وفريق ثان يرى أن الرجل سليل نظام بائد قد انتهى وليس من مصلحة الدولة التونسية أن تحمي وزيرا أجرم في حق شعبه وتخسر في المقابل مصالحها الحيوية في الدولة الليبية الناشئة ... كان موقف المؤسسة العسكرية خاضعا للسلطة الشرعية وقد نفذ أوامر السلطة السياسية المنبثقة عن المجلس التأسيسي.. ثم إن الجيش يمتلك استقراءات أمنية واستخبارية هي التي تحدد مدى التأثيرات الممكنة لقضية "البغدادي" على الأمن القومي التونسي

 
   إن هذه القضية قد تحولت إلى موضوع للتجاذبات السياسية بين الفرقاء في المشهد السياسي التونسي. ولا يخرج المسعودي عن هذه الطبقة السياسية, إنه يبحث لنفسه عن مكان تحت الشمس. والغريب أن فريق المستشارين الذي اختاره الرئيس "المنصف المرزوقي" لمساعدته كان مهتزا وغير متجانس بدليل تعاقب الاستقالات داخله ويبدو أن الرئيس قد أخطأ في اختيار بعض مساعديه. على أن إطلاق تهمة الخيانة ضد كبير قائد عسكري تعتبر جريرة بمقاييس القيم العسكرية, حتى وإن سعى لسان الدفاع إلى تلطيف العبارة أو إعادة تأويلها وإنتاج دلالات جديدة في المعاني التي تفيدها لفظة "الخيانة"... واتهام الآخر بالخيانة يستدعي توفر حجج وبراهين دامغة. و"المسعودي" يفتقد إلى تلك البراهين, وبالتالي فإنه قد وقع في شرك خطابه الشفوي وخرق قواعد الأخلاق وضوابط السياسة ... وحين تعاودنا الذاكرة المثقوبة إلى زمن الثورة الأول حين انتشر الهرج والمرج واللصوص والمتآمرون من فلول النظام السابق, وحين كان المسعودي يشاهد القنوات الفضائية على أريكة مريحة. كان قائد الأركان يواجه مسؤولية تاريخية في إدارة أزمة خطيرة لم تعرفها البلاد التونسية منذ الاستقلال, وقام الجيش بدور بطولي في حماية كيان الدولة والسلم الأهلي والنظام العام ... إنه جحود أخلاقي في حق العسكر وفي حق "رشيد عمار" . ونحن نرى أن التخوين بالمعنى السياسي خطيئة وبالمعنى القانوني جريمة وبالمعنى الأخلاقي سقوط في القيم ... وليس محمودا لبعض الأطراف الحزبية أو الحقوقية أو المدنية أن تجترئ على مؤسسة عسكرية وطنية نرى أنه من اللازم المحافظة على هيبتها وليس قداستها. أن تكون فوق التجاذبات السياسية والتناقضات الفكرية وبعيدة عن صراعات سياسية تتكالب على السلطة دون أن تراعي مقتضيات الوحدة الوطنية.....
   إن هذا الجهاز العسكري يجب أن يبقى بمنأى عن الاختلافات الفكرية أو السياسية, وأن بناء دولة حديثة وديمقراطية يقتضي أيضا تخصيص إمكانات مادية ضرورية لهذه المؤسسة ويتطلب بناء عقيدة عسكرية للجند بما يتوافق مع فكرة بناء وطن يسع الجميع ... انه الضامن الأخير للوحدة الوطنية وللأمن الخارجي والداخلي للبلد.

بقلم الأستاذ المعز الحاج منصور


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire