jeudi 26 janvier 2017

قصة قصيرة من الأدب الرمزي مهداة لأخي وصديقي الأستاذ محمد ناعم الحاج منصور) : حكاية الأعمى والكسيح




دخل الغريب المدينة ليلا فوجدها مقفرة  وراح يبحث عن خان يقضي فيه ليلته حتى عثر على خان في وسط المدينة فسلم راحلته للبواب ودخل يتحدث إلى صاحب الخان. وكان الغريب رجلا مسنا فقال لصاحب الخان  "حدثني بخبر هذه المدينة. فمنذ دخلتها لم أر فيها غير الكلاب.. أين الناس". قال صاحب الخان "أمر هذه المدينة عجب". قال الشيخ "وما ذاك". قال صاحب الخان "اعلم ان هذه المدينة كانت تسمى مدينة النور. وكان كبير تجارها وهو الشاه بندر قد رزق بنتا لم يسمع بمثل جمالها في الأمصار. فعزموا على تزويجها من ولد الوالي منذ ان كانا صبيين. وكان شاه بندر التجار مغرما بالأسفار. وفي إحدى سفراته نزل وأصحابه في إحدى الجزائر فوجد قردا مسخا تنتفه القرود وتضربه. فأشفق عليه وخلصه من أيدي القردة الذين يستضعفونه وحمله معه الى المركب. وصار القرد لا يفارقه ليلا ولا نهارا. وكانت زوجة الشاه بندر تبغض القرد وتنهى زوجها عنه وتقول انه سارق. فلم يسمع الشاه بندر نصح زوجته. وكان القرد في كل يوم يغيب ساعة من نهار ويأتي للشاه بندر بصرة دراهم فيطرحها في حجره. ففرح به الشاه بندر وزاد من كرامته واتخذه صاحبا حتى انه صار يتركه ينام معه في فراشه بينه وبين زوجته. فلما جاءت الليلة الموعودة وهي ليلة العرس التي ترقبها أهل المدينة ثلاثين عاما وصادف أنها الليلة الرابعة عشرة من الشهر زينت المدينة. ولما كان أهل البيت منشغلين بالفرح أحاط الجن بالدار وسمعت قهقهة عظيمة. لان القرد كان ماردا من مردة الجن دبر لخطف العروس بعد ان سمع بجمالها لكن الرصد لم يمكنه من غرضه الا في الليلة الرابعة عشرة. فكانت العروس في مقصورتها والوصيفة تمشطها فحملها العفريت وطار. فلما سمع الناس الخبر ارتجوا واسقط في أيديهم. إلا العريس فانه صمم على الخروج للبحث عن عروسه ومن ذلك اليوم لم نسمع عنه خبرا. وكان اختطاف البنت شؤما على المدينة. فقد تأمر الحكمدار وهو قيم القصر على الوالي فرشى رؤوس الجند بالمال واتفق معهم على خلع الوالي وتنصيبه مكانه. فكان والي المدينة مستغرقا في النوم بين زوجته وأولاده فلم يبصر الا بأسنة الرماح مشرعة فوق رأسه. فاقتادوه إلى السجن وختموا على دوره وأمواله وفر بقية أهله من البلاد. وأرسلوا إلى السلطان يعلمونه ان العامة ثارت على الوالي لجوره فعزلوه. وبعثوا مع الرسول هدية للسلطان فرضي واقرهم على صنيعهم. وما ان جلس الوالي الجديد حتى فشا الظلم وسادت سفلة الأمس وكثرت المكوس والمغارم. فلا يمر يوم أو يومان إلا وينادي المنادي في الأسواق بمكس أو إتاوة جديدة. فلما ضج الناس ألهبتهم سياط الشرطة فخمدوا وصاروا يتحسرون على الوالي المخلوع. وكثر الشر واستشرى النفاق وعم النهب حتى صارت الشياطين تظهر عيانا فتحدث الناس وتخالطهم في أعمالهم وتجارتهم. وتربع الغلاء على العرش. وأصبح كل من يخبر عن رشوة أو سرقة يستدعى إلى دار الشرطة فيلفي نفسه في السجن. وفي احد الأيام كان هناك رجل موسر من وجهاء المدينة يتمشى في السوق يحيط به غلمانه. فبصر بشحاذ عار يجلس تحت جدار ليس عليه إلا سروال مهترؤ يداري به عورته. فجاء شيطان من تلك الشياطين التي كانت تجوب المدينة ووسوس للغني "ان هذا الشحاذ ليس له الا السروال الذي يلبسه فان نزعته عنه فلن يضيره شيئا". فوقعت فكرة الشيطان في نفس الثري موقعا حسنا وأرسل غلمانه للمتسول. فلم ينتبه هذا إلا وغلمان الشريف واقفين على رأسه وقالوا له "انزع سروالك". وجعلوا يسحبونه منه وهو ينازعهم ويصيح "سروالي سروالي" إلا تكشف عورته ويفضح في الناس. وفي المدينة رجل أعمى ورجل مشلول وهو الكسيح. فقال الأعمى للكسيح "ما رأيك في ان أحملك على ظهري وامشي بك وأنت تدلني على الطريق فتكون عيني وأكون ساقك". فاستصوب الكسيح فكرة الأعمى فحمله فوق ظهره وصارا يتجولان في المدينة حتى وقفا على الشحاذ وخدم الشريف ينزعون عنه السروال والناس مجتمعون يتفرجون عليهم. قال الأعمى "ما ترى". قال المشلول "أرى عجبا. غني يسلب صعلوكا سرواله". وبينما هم كذلك إذ حضرت مفرزة من الشرطة ففرقت الجمع وتدافع الناس فوقع الأعمى على الأرض ووقع الكسيح معه. فجعل الأعمى يبحث عن الكسيح بيده ويقول "أين عيناي". والكسيح يقول "أين رجلي". وداسهما الناس بالأقدام. فلما سال صاحب الشرطة عن القضية قال له الشريف "هذا الصعلوك سرق مني ذاك السروال فاسترجعته منه". وأشار بيده لسروال المتسول الذي كان بأيدي الخدم. فصدقه صاحب الشرطة وأمر رجاله بالقبض على المتسول فجروه إلى الحبس وهو عريان. وكان والي المدينة يعقد ديوانه في كل يوم من الجمعة لسماع أصحاب الحاجات وسمي هذا اليوم يوم المظالم. لكن الحجاب والبوابين لم يكونوا يأذنون بالدخول على الوالي إلا لمن يعطيهم الرشوة. فيعجز الفقراء والضعفاء عن الدفع وينصرفون خائبين. فلما يسال الوالي أعوانه عن أصحاب الحاجات يجيبونه "كل شيء تمام.. لم يأت احد للتشكي.. فقد عم الرخاء والعدل في عهدكم". فلما كان يوم المظالم سأل الوالي كبير الحجاب ان كان هناك احد بالباب. قال الحاجب "هناك كبير البصاصين .. وجوقة القفافين.. والطرطور". والطرطور هذا منصب رفيع في المدينة. وكانوا إذا قلدوا رجلا منصبا وضعوا على رأسه طرطورا. دخل كبير البصاصين فاطلع الوالي على تقريره وعرض عليه أسماء الرجال الساخطين على حكمه والخطب التي قيلت في المساجد وغيرها من تقارير البصاصين. ثم انصرف فدخلت جوقة القفافين فأنشدت الوالي مدائح كتبوها في صحف صفراء. فأمر الوالي صاحب الحسبة بان ينثر حفنة من الدنانير على القفافين ويصرفهم. ثم أمر بإدخال الطرطور. فوقف الحاجب بالباب وصاح "يدخل الطرطور". دخل الطرطور وعرض على الوالي تقرير اعماله وراح في حال سبيله. عندئذ تحفز الوالي للنهوض من مكانه لكنه سمع جلبة بالباب. فنادى على كبير الحجاب وسأله عن الضجة. فابلس كبير الحجاب واطرق إلى الأرض ثم رفع رأسه وقال "اثنان من الحرافيش احدهما أعمى والثاني كسيح مصممان على الدخول عليكم". وحرافيش المدينة هم فقراء الناس وبؤسائهم. فتعجب الوالي من كلام حاجبه وقال "الم تقولوا بان ليس في المدينة حرافيش... ادخلهما علي". وكان الأعمى والكسيح بعد وقعة السروال صعبت عليهما فضيحة المتسول فقالا نطلع إلى قصر الولاية لاشتكاء الشريف وصاحب الشرطة. فلما دلفا إلى القصر صدهما الحاجب لكنهما صمما على رؤية الوالي وقالا له "نريد مقابلة الوالي لاطلاعه على ما حدث اليوم في السوق". حتى علت أصواتهم فسمعهم الوالي ونادى كبير الحجاب كما تقدم. فلما دخلا واعلما الوالي بالقضية سألهما" هل أنتما أولياء الرجل (المتسول)". قالا "كلا ولكن صعب علينا امره فجئناك لتنصفه من الشريف وصاحب شرطتك". فقال الوالي "اذا كان الرجل يدعي حقا فليذهب إلى دار القضاء. الم تعلما بان قضاءنا وشرطتنا مستقلان عنا". ثم تركهما واقفين وخرج. فنادى كبير الحجاب على احد الحراس وأشار له بعينه إشارة فهمها الحارس ثم اومأ للأعمى والكسيح". فلما أنهى صاحب الخان حديثه قال له الشيخ "عجيب والله أمر هذه المدينة. ولكن خبرني بما حل بابوي العريس بعد خروجه للبحث عن معشوقته". قال صاحب الخان "أما الأم فقد ماتت كمدا عليه. وأما والده فقد صادرت حاشية الوالي الجديد أرزاقه وحوانيته لأنهم اعتبروه خائنا وصهرا للوالي القديم. فمات هو الأخر بعد عام من وفاة زوجته". فبكى الشيخ بكاء مرا عند سماعه لذلك الحديث فتعجب صاحب الخانة من أمره وسأله "ما يبكيك وأنت غريب عن هذه المدينة ولا صلة لك بما فيها ومن فيها". قال الشيخ "اوتدري من أنا.. انا هو العريس الذي خرج بحثا عن عروسه". فكذبه صاحب الخان ولم يصدقه حتى أراه علامة. فتعجب صاحب الخان ’وكان شابا’ وقال للشيخ "ولكن يا ولدي كيف شبت في ستة اعوام". قال الشيخ "هذه قصة طويلة". ثم تنهد وقال "وما العيش بعد فراق الأحبة". وفي الصباح جاء صاحب الخان لنهظه وجاء له بالفطور وفي عزمه ان يجمع أهل المدينة ليسمعوا منه الخبر. لكنه عندما حركه وجده ميتا.

المكي بنعمار (قاضي لدى محكمة الاستئناف بقفصة)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire