mercredi 2 novembre 2016

" ايام الرباط ": ليس في قريتنا ذئاب




( الجزء الثاني من قصة  " سجوني " . مهداة لأخي وصديقي الاستاذ فارس الكلمة محمد ناعم الحاج منصور ) .
بعد سنوات عديدة,  وامام بوابة السجن ,تذكر القاضي صباح ذلك اليوم البعيد الذي اخذه فيه عمه ليتفرج على صيد الذئاب . وقتها كان ولدا في العاشرة من عمره ;لكنه الان يذكر تلك الاحداث كما لو انها جرت بالأمس . عشية ذلك اليوم, استعد اهالي القرية لحملة الصيد التي ستخرج في الصباح الباكر باتجاه الجبل. وكانت حملة من هذا النوع بمثابة عرس في القرية .لأنه في الايام الفائتة تسللت بعض الذئاب الى القرية وخطفت خروفا ثم اعتصمت  بالجبل ,فصمم القرويون على تأديب اولئك اللصوص كيلا يعودوا لمثلها . واصر الجحجاح,و هو عم الولد وكبير القرية ,على مهاجمة الذئاب في جحورها لاستئصال السرقة من جذورها . اشتهرعم الولد بتهشيم رؤوس الذئاب بهراوته ولذلك اطلق عليه اهالي القرية كنية " الجحجاح " اي كاسر العظام . ويكفي ان يهوي على ذئب فيدق عظامه بضربة واحدة من هراوته الثقيلة . كان عمه رجلا طويلا ضخما حاد العينين مفتول الشاربين . وكان يعتزكثيرا  بهراوته التي قتل بها كل ذئاب المنطقة حتى انه كان يحلف بها في الملمات .فان عزم على امر يقول : " اقسم بهراوتي ان افعل كذا وكذا .. وحق هراوتي الا فعلت كذا ... " . كانت الهراوة بالنسبة اليه اكسير حياته وعنوان فحولته .  و قبل موته اوصى بان تدفن معه . ذات يوم هشم بها راس ذئب ضخم  ثم علق الراس في سقيفة المنزل . ولم تفلح جهود العائلة وتوسلاتهم في اقناعه بالعدول عن رايه و إنزال الراس من مكانه . فبقي راس الذئب معلقا اربعين يوما ولم ينزله الجحجاح  الا بعد ان اقسمت عليه خالة الولد بهراوته ان يخفي الراس البشع لان  انياب الذئب الحادة ولسانه المتدلي افزعا  اطفالها . ولم يكن العم الجحجاح يرد لاحد طلبا اذا اقسم عليه بهراوته ومعزتها عنده . لقد انتقم من ذلك الذئب لاختلاسه عشرة خرفان في ليلة واحدة . فاعتبر الجحجاح ذلك خدشا لهيبته وهو الذي انتشر صيته وصيت هراوته في ذئاب الجبال المحيطة بالقرية . فاقسم بهراوته ان يخرج للبحث عن الذئب بنفسه . و في الصباح اخذ الهراوة وتسلق الجبل .واستغرق عشرة ليال يبحث عن الذئب من جبل الى جبل حتى عثر عليه فاحضره حيا وطاف به في ازقة القرية قبل ان يوقفه في ساحة القرية و يهشم له راسه بهراوته ثم علق الراس في سقيفة المنزل .
في حملة الصيد تم القضاء على عشرة قطعان من الذئاب الجبلية سحق الجحجاح نصفها  بهراوته .  و اختبأت فلول الذئاب المتبقية  في المغاور او اختفت في الوديان . وكان اخر تلك الفلول ذئبة حاصرتها كلاب الصيد في كهف . كانت الذئبة قد خرجت تبحث عن الغذاء لجرائها عندما سمعت صوت اطلاق النار على ابناء جلدتها في الغابة . وقتها كانت المذبحة على اشدها . فرجعت لجرائها مسرعة  لكن اشتمت الكلاب رائحتها فاقتفت اثرها . تحصنت الذئبة في الكهف و كشرت عن انيابها . هي الان مستعدة للدفاع عن نفسها .. وعن صغارها .. بما اتيح لها من اسلحة فالوحوش اشد ما تكون ضراوة عندما تعلم ان نهايتها وشيكة او ان مجالها الحيوي مهدد . دخل احد الكلاب على الذئبة فسمع عواؤه ولم يخرج . و دخل الكلب الثاني فقتلته هو الاخر . صاح صياد :" قتلت الثاني !وان استمر الحال هكذا فستفتك بجميع كلاب الحملة !" . وبخبرة القناص المتمرس امر الجحجاح احد الصيادين باستدراج الحيوان المتوحش الى الخارج . لكن الذئبة راوغت الصياد وانشبت انيابها في ذراعه فصاح  من الالم وطعنها بخنجره . فازدادت  شراستها عندما جرحت . صوب صياد اخربندقيته نحو صدر الذئبة و استعد لإطلاق النار. كانت الذئبة تئن وتتحفز للنهوض . وما ان وثبت حتى صاح الجحجاح :" اطلق ! " . فضغط الصياد على بطن البندقية فتقيات حممها التي حولت الذئبة الى اشلاء فأصدرت عواء مبحوحا و خرت ميتة . اشفق الولد على الذئبة لأنها امواحس  بالحقد على الصياد الذي قتلها وعلى عمه الذي امر بالقتل . و زادت شفقته و حقده عندما رأى جراء الذئبة  تتخبط على غير هدى في الظلمة باحثة عن امها الغارقة في دمائها  عند باب الكهف . وتفتتت كبده عند سماع عمه يأمر الصيادين بقتل صغار الذئبة . وعندما بدا الصيادون بإطلاق النار على الجراء ارتمى على عمه الجحجاح وراح يتوسل اليه  لوقف المذبحة . فنظر له عمه بعينيه الحادتين القاسيتين نظرة تأنيب  على ضعفه وعدم فهمه لمغزى تلك القسوة التي يواجه بها الذئاب . ثم دفعه عمه  وصاح بالصيادين : " لا تتركوا واحدا منها حيا !" . وفي المساء تحلق الصيادون بالنار يرتشفون الشاي في انتظار ان نضوج لحم الذئاب المر . وكان من عادتهم ان يأكلوا من لحم الذئب الذي يصطادونه . و جلس الولد وحيدا كئيبا وندم على الخروج مع عمه في تلك الحملة .و طالما توسل له ان يصحبه في احدى رحلات صيده . قدم له احد الصيادين قلب ذئب مشوي فعافه. فضحك الصياد ملئ فيه وقال : " كل يا ابن اخي .. فان من يأكل قلب الذئب يصبح داهية !" . وكان الولد كلما  شاهد عمه  يلوك لحم الذئاب ويضحك خيل اليه انه يرى سفاحا يتلذذ بنهش لحوم ضحاياه و شرب دمائهم . وقبل خلوده للنوم جاءه عمه الجحجاح وجلس بقربه وقال : " اسمع يا ابن اخي ! انا اعلم انك متأثر بما شاهدته اليوم .. ولكنك عندما تكبر سوف تفهم لم فعلت ذلك .. يا ابن اخي ! انا اتوسم فيك مستقبل رجل عظيم .. عندما تكبر.. لا ترحم اللصوص .. " .واليوم , يستحضر القاضي الذي رافق عمه في رحلة الصيد قبل عشرين عاما نصيحة عمه ويقول :   " اكان عمي على حق يا ترى ؟!" .تكللت حملة الصيد بالنجاح, ورجع الصيادون الى القرية فاستقبلهم الاهالي استقبال الفاتحين .ومنذ ذلك اليوم , و على مدى خمسة اعوام  ,لم يشاهد للذئاب اثر في القريةاوفي القرى المجاورة .فتنفس الاهالي الصعداء وظنوا ان حملة الجحجاح خلصتهم من السرقة واستأصلت اللصوص من ارضهم الى الابد . لكن و في احد الايام شوهد ذئب يجر خروفا ويخرج به من القرية في وضح النهار .فاجتمع رجال في ساحة القرية يتدارسون الامر و كانوا لا يجتمعون في الساحة الا لأمر جلل . قال احدهم" ياله من ذئب وقح ! كيف يجرؤ على مهاجمتنا وسرقة نعاجنا في وضح النهار ؟؟ !! " . فقال شيخ من حكماء القرية : " الوقاحة ليست في الذئاب .. فهي تعمل بفطرتها .. وانما  غياب الحراسة عن القرية منذ وفاة الجحجاح هو ما شجعها على مهاجمتنا في وضح النهار. عندما كان الجحجاح حيا كانت رؤوس الذئاب معلقة في الساحة . اما الان, و بعد ان دفن الجحجاح ودفنت معه هراوته اصبحنا مرتعا للصوص وقطاع الطرق .. واخشى ما اخشاه ان يتعود الناس على وجود الذئاب بينهم فتصبح جزءا من حياتهم ..  " . انتشر خبر ظهور الذئاب بسرعة.فدب الهلع بين الاهالي وطاف الخبر في القرى المجاورة كما يطوف التاجر المتجول من مكان الى اخر. لكن الاهالي الذين لم يكونوا الى ذلك الحين  مصدقين لما سمعوااتهموا الرجل الذي شاهد الذئب بالكذب و بث القلاقل في القرية . فجاءه عرص كبير البطن وقال : " اسمع ايها الرجل !  ليس في قريتنا ذئاب .. لقد تمت ابادتها منذ خمسة اعوام .. " . و قال اخر : " اتقصد ان في قريتنا لصوص ؟!ما دليلك على ذلك ؟ " .  فصاح الحاضرون " امسكوا بهذا الخائن المروج للإشاعات قبل ان يظهر الفوضى في القرية ". وجاء العمدة مصحوبا بخفيرين فقبض على المبلغ واودعه السجن .لكن الذئاب بدأت تتكاثر منذ ذلك الحين وتزايدت اعدادها مع الايام . وبتزايد عددها تفاقم امرها و توطد نفوذها في القرية .فعمت السرقات و اخليت مزاريب واتلفت مزارع بأكملها . و عم السلب والنهب .فانتهزت الثعالب فرصة انشغال الاهالي بهذه الجائحة فقامت بالسطو على اقنان الدجاج . وشاهدت امرأة ثعلبا يخرج من قن الدجاج حاملا ديكا في فمه . فالتفت الثعلب الى المرأة وقال لها : " يالكم من حمقى  !تنشغلون بالذئاب وتنسون الثعالب! " . و ضحك على المرأة ثم لاذ بالفرار . وفي الصباح اخبرت المرأة جاراتها بما شاهدته بالليل واقسمت لهن بان الثعلب كلمها فاحضرن لها عرافة القرية لترقيها من المس. وظهرت الحيوانات القمامة من ضباع وبنات اوى فأصبحت تشاهد وهي تنبش فضول الذئاب او تتجول في طرقات القرية بأمان.. واحيانا تدخل على القرويين بيوتهم وتشاركهم طعامهم . ولم يجرؤ احد منهم على التصدي لها او منعها مشاركته رغيف الخبز خشية ان يكون مصيره كمصير الرجل الذي بلغ عن اول ذئب ظهر في البلدة . ورجعت القطط المتشردة و الكلاب الضالة فأحكمت مخالبها و انيابها على المزابل . وهكذا تم اقتسام القرية بين الذئاب والحيوانات القمامة والكلاب المسعورة وافردت كل واحدة منها ب" منطقة نفوذ " . غير ان الذئاب السارقة كانت لها اليد الطولى و الكلمة العليا على غيرها من اللصوص و السراق لسبقها في نهب القرية . وأصابتها التخمة من الشبع . فحبس الاهالي قطعانهم التي لم تسرق بعد حتى هلكت جوعا. فصارت المذابة ( الذئاب ) تهاجم الاطفال الميممين بيوتهم وتتعرض للمسافرين القادمين الى القرية و الخارجين منها . وقام ذئب بمطاردة عجوز خرجت من بيتها ليلا فوجدته يلغ في بقعة من الدم فالتفت لها بعيون محمرة مثل عيون القاتل ... لقد استولى الخوف على البلدة واستمر البلاء حتى مجيئ الهواء الاصفر .

المكي بنعمار 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire