mercredi 16 novembre 2016

" أيّام الرّباط " : صواعق آخر الليل




 ( الجزء 2 من " سجوني " مهداة للأخ محمد ناعم الحاج منصور عجل الله سراحه ) . 
هبت ريح صفراء على القرية فقضت على الذئاب وبقية اللصوص الذين نهبوا القرية  . وسميت بالريح الصفراء لأنّ الأفق أصبح  أصفر زمن هبوبها . استمر هبوب الريح سبعة أيام بلياليها كانت خلالها الريح تعوي كالعجوز الشمطاء في شوارع القرية الخالية بعد أن هجرها سكانها . فلما سكنت الريح هطلت الأمطار بغزارة فجرفت سيولها جثث الذئاب وألقت بها في المجاري . ورجع أهالي القرية الذين اعتصموا في السابق بالجبال فتخلصوا من الذؤبان المتبقية واحرقوا جثثها بالنار حتى لا يفشو الوباء في القرية . ونبشوا قبر الحجاح  فاستخرجوا هراوته التي بقيت على حالها رغم مرور خمسة أعوام من دفنها مع صاحبها , وعلقت الهراوة في الساحة . ونظمت فرق للحراسة الليلية تحسبا من رجوع الذئاب . وأفرج عن الرجل الذي بلغ عن السرقات من حبسه وتم تكريمه كمناضل , وسميت القرية باسمه .
شطح الخيال بالقاضي وهو يسترجع تلك الأحداث حتى انتبه على يد تربت فوق كتفه . التفت ساهما فرأى شقيقه يتبسم له . لقد جاء ليصحبه إلى البيت بعد خروجه من السجن .
-        هل أنت بخير يا أخي ؟ قال شقيقه .
-        نعم .. أنا بخير .. هيا بنا !
ومرت الأيام . وفي يوم 03 أكتوبر أفاق القاضي مبكرا فجلس في صحن الدار قبالة جده . وكان الجو صحوا والسماء صافية . لكن جده الذي ناهز الثالثة بعد التسعين قال وهو يتأمل في السماء :" هناك عاصفة في الأفق !  " . فرفع القاضي رأسه مستغربا : " ولكن الجو صاف يا جدي ! " . فتنحنح الشيخ وقال بلهجة واثقة : " من الآن إلى المساء سيتبدل كل شيء " . فسكت القاضي لأنه يعلم أن جده لا يخطئ إذا تعلق الأمر بأحوال السماء وتقلبات الطقس . كان ذلك الشيخ يشتم رائحة العواصف من بعد أميال . فلما هبط المساء بدأت الغيوم تتجمع في السماء . ثم تقترب من بعضها وتتصافح وتتعانق كأصدقاء لم يلتقوا منذ سنين . وكانت الريح في الجو العالي تزجر كل غيمة تتخلف عن ملاقاة أصحابها وتسوقها أمامها كراع يسوق شياه شاردة . فلما تلبدت السماء بالغيوم جعلت الريح تمسك بها وتركمها فوق بعضها كأكداس التبن . وأطبق السحاب على الأرض . فومض بارق من السحاب الثقيل وجعل الضغط يحلب السحاب فيقطر منه الودق . وفجأة زمجر رعد  قاصف وانهمر المطر . ساح المطر في البداية غزيرا ثم مهطالا ثم مدرارا . وكان الجبل المحاذي للقرية ينتصب في ظلام الليل بقامته الفارعة كالغول يحرس القرية . سقطت صاعقة على الجبل فهشمت بعض الصخور . واستمر هطول المطر . تدثر القاضي في فراشه بعد أن اطمأن على أمه .. وكان من عادته لا يأوي لفراشه إلا بعد أن يغطيها . زادت وتيرة الصواعق التي كانت فرقعتها تثير الذعر . لكنها لم تقترب من القرية فسقطت جميعها على الجبل . كانت السماء غاضبة من ذلك الحارس الذي يدعي حماية القرية . أمسكت السماء بيدها صاعقة كالرمح وصوبتها إلى الجبل ثم أطلقتها على صدره . لكن الجبل لم يتزحزح من مكانه . فانتفضت السماء الغاضبة صاعقة أخرى ودمغت بها راس الجبل . بيد أن  الطود ظل منتصبا كالمارد . فاستشاطت السماء حنقا من تحدي الجبل لها وصبت عليه سخطها دفعة واحدة فزادت وتيرة صواعقها وأصبحت ترميها على الجبل كيفما اتفق . تواصل هطول المطر طيلة الليل . وعندما طلع النهار كانت الشمس ضاحية كأن لم تهب عاصفة بالليل وكأن لم تحدث مواجهة بين السماء والجبل . جلس القاضي يرتشف القهوة ويمز السجائر. وكان الراديو يذيع بعض الأغاني والبرامج السمجة . ولكن البث انقطع فجأة لإذاعة خبر عاجل .. " تم اليوم إصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق السيد محمد ناعم الحاج منصور مدير جريدة الثورة نيوز ... " 


هب القاضي من مكانه كمن لدغته أفعى وقال غير مصدق ما يسمع : " ماذا ؟؟ !! .. مستحيل !.. لا يمكن ! " . وكان ابن شقيقته يلعب الكرة في صحن الدار فنهره وأمره بمبارحة المكان . وطفق يتلفت يمنة ويسرة كالمختبل باحثا عن علبة السجائر . ثم جثم في مكانه وراح يدخن  بشراهة . وكان من عادته أن يخمد السيجارة عندما يحترق نصفها , لكنه في هذه المرة كان ينسى السجائر في يده حتى تحرق أعقابها أنامله . هو لا يعرف صاحب الجريدة . كل ما يعرفه أن الحاج هو الوحيد الذي دافع عنه عندما كان في السجن .. ولذلك أحبه حبا جما . تألم القاضي في صمت ودون أن يظهر ألمه للآخرين .. 


وهي العادة التي ورثها عن أمه القوية التي كانت قابعة في ركن بالحجرة تراقبه وتتألم لألمه . تحفز القاضي للنهوض ,لكن ألما مفاجئا أطبق على صدره وسمره في مكانه . وتسرب الألم بين أضلاعه حتى وصل إلى قلبه فقبض عليه وصار يخنقه ويضحك كما يخنق الشيطان الرجل المصروع . غمغم القاضي : " لا يمكن لأي الم في الدنيا إن يثنيني عن النهوض !" . فقام على حيله وتوجه إلى حجرته . فتصفح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية ومجلة الإجراءات الجزائية . وطلب محاميا بالهاتف وسأله عن مرسوم الصحافة . راجع تلكم النصوص ;لكن واجب التحفظ منعه من الإدلاء بأي رأي . لقد كان مكبلا . أوصد باب الغرفة وجلس على الكرسي واطرق إلى الأرض . ثم أطلق العنان للبكاء . وكان في غمرة بكائه يتوجس من بلوغ نشيجه إلى الخارج . فهو لم يكره في حياته أمرا كرهه أن يرى الناس ضعفه و انكساره .. حتى و لو كانوا أهل بيته . لمح من سحابة دموعه ابنة أخته الصغيرة تسترق له النظر من كوة النافذة . فكفكف دموعه بسرعة وناداها وقال لها محذرا :" إياك أن تخبري أحدا بما شاهدت ! أتفهمين ؟ " . فقالت الطفلة ببراءة :" لماذا كنت تبكي يا خالي ؟ هل الرجال يبكون أيضا ؟ " . فدفع بها إلى صدره وانفجر باكيا وهو يقول :" يبكون يا حبيبتي .. يبكون .. وعندما يبكون تكون الدنيا قد صارت أضيق من ثقب الإبرة وتكون السماء قد أطبقت على الأرض .. " . جافاه النوم تلك الليلة . فظل مستلقيا على الفراش يفكر . وتذكر ما قاله جده عن زوبعة الليلة الفائتة .. " السماء يا ولدي لا تغضب على الأرض إلا إذا كان في الأرض رجل عظيم يتألم " . فترقرق الدمع في عيونه وقال بصوت مرتفع : " لا شك أن الحاج يتألم في سجنه .. ذات يوم أخرجني ذلك الرجل من سجني وأنا الآن عاجز عن مساعدته .. " . تمنى في تلك اللحظة لو لم يكن قاضيا ليرد له الجميل بما أمكن . وفكر في تقديم استقالته .


 وبينما هو غريق في بحر أفكاره دخلت عليه أمه وسألته إن كان يرغب في العشاء . قال لها :" لا رغبة بي إلى الطعام يا أمي .. تعشي أنت " . قالت : " ولكنك لم تأكل شيئا منذ يومين يا هارون " . قال :" أنا متمرس بالجوع .. أنسيت أيام الجامعة ؟! .. وطفولتي التي قضمت فيها الصخر ! " . بعد انصراف أمه وثب من الفراش إلى الخزانة يبحث عن كتاب " ألف ليلة وليلة " . وبعد ساعة من التنقيب عثر على المجلد  تحت كومة كتب فاستخرجه و نفض عنه الغبار وفتحه كما اتفق . إنها حكاية " بدر البدور بنت شاه بندر التجار " . حكاية قرأها عشرات المرات ولم يشبع منها . فاستلقى على سريره يعيد قراءة الحكاية حتى أخذته سنة من النوم . وسبحان من لا ينام ولا يغفل . بدر البدور .. الصبية التي خطفها الجان في ليلة عرسها ( ... ) .       

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire