samedi 29 octobre 2016

ملحمة في سجون الاحتلال...الكلمة تقهر الجلاّد




  في حجرتي بالسجن سجناء في قضايا مختلفة، فيهم من يثير الشفقة فلا يجد رغيف يوم، وكل منهم يحمل على أكتافه ظلم الزمان... الظلم قائم في المدينة الإنسانية، هو جزء من الذات البشرية... أولئك المظلومون فيهم من يقدر على المقاومة وفيهم من يستسلم... وفي السجن كثير من المظلومين والمسحوقين والمقهورين، ولا أهل.
  اكتشفت أنا في تجربة السجن عالما جديدا معقّدا، هو عالم المنفيّين، القانون يردعهم ويزجرهم، هو ردع وزجر وقهر... غير أن ذلك القانون مِطواع، يمكن أن يتمطّط بالتأويل فيبتلع الأبرياء، ويمكن أن ينحسر بالتأويل حتى يُبرّئ عتاة المجرمين.
  وكان دخول لاعب كرة القدم، ذاك اللاعب الشهير من لاعبي سنة 1978، قد أحيا في المساجين أملا، هو أمل الباحث عن الجدّة زمن اليأس... واسيته في جليل مصابه... كان متهما في قضية مدنية، هي قضية يمكن تجاوزها، والحل قريب.
  قال لي لاعبنا:" يا صاحب الثورة نيوز، العالم يلهج بذكرك، خصومك كثر يسبّون بالليل والنهار، وأصحابك يدافعون عنك في استماتة... وعامة الناس متعاطفة ورافضة لهذه المظلمة... أنا لا أعرفك، غير أني كنت أقتني الجريدة كل يوم جمعة... أحيانا انتقل من كشك إلى كشك بحثا عنها... من أين لك تلك الملفات وتلك الجرأة ؟"
  كان لاعبنا حفيًّا بي، خاطبته :" أنا لا أصنع ملفات، هنالك حقائق ثابتة... أضرب لك مثلا، منذ سنتين اتصل بي موظف سام بالخطوط الجوية التونسية... قابلته... أمدّني بكتاب فيه قرابة 300 ورقة... كان تقريرا مفصلا عن تورط سياسي ورجل أعمال معروف."
  اجتمع القوم في دهَش، اقتربوا داخل حجرة السجن، التفوا بي، إنهم يرومون سماع أخبار لوبيات الفساد، وشبكاتهم المعقدة.


   زدته قولا:" هذا السياسي هو الوزير الحالي المهدي بن غربية... نشرت تلك الوثائق في الجريدة.... لقد تسبب الرجل في خسائر بالمليارات للناقلة الجوية... وكسب هو أموالا طائلة على حساب المجموعة الوطنية... هل تعلمون ماذا فعل؟"
:" أرسل إليّ أحد أصدقائي يترجّاني أن أتوقف عن نشر بقية الوثائق... وكان صديقي ذا أثرة عندي فطويت الملف عجلا."
  نطق لاعبنا:" مهدي بن غربية قد شنّ ضدك حملة مسعورة وانتشى لسجنك وعبّر عن فرحته في العلن."
   تلك أخلاق اللئام، أنا أمسك كثيرا من ملفات أعماله المشبوهة، هو انتهازي حتى النّخاع... سوف استمرّ في فضحه."
  طوفان الفساد قد غمر كل القطاعات في تونس، الدولة تتهاوى في سرعة، لم تعد دولة ثابتة ومستقرة، اللّوبيات تتقاسم معها جزءا من السلطة... ورئيس الحكومة ... مسكين ... جاؤوا به صورةً للزينة... الرجل لا يحكم... إنهم  يأمرونه وهو ينفذ... تلك هي الحقيقة.


  في الطوفان يغرق الجميع... الطوفان أسطورة مدهشة عن مأساة العالم.... يكفي أن ترى فيضانا صغيرا في واد من الوديان... الطوفان أعظم منه... كل البشرية في خرافاتها وأساطيرها تحدثنا عن جبال من المياه تغرق العالم في عملية إبادة وتطهير.
   "جلجامشّ" إلاه الأسطورة والطوفان في الأساطير السومرية والأشورية القديمة ، أدار ملحمة رائعة ومُضنية... صنع الفُلك... هو يماثل قصة النبي نوح تماما... كان السجناء يتسمعون في استغراب، لم يسمعوا يوما عن ملحمة "جلجامش"... إنهم ضحايا هذه الدولة، وضحايا نظام تعليمي بائس حطم قيمة العقل والمعرفة وحولهم إلى قطيع هائم.
  يا سادتي "جلجامش" تحدّى الطوفان... أنا أرى طوفان الفساد يأتي من بعيد... قد فاض التَنُّور... فرأيتَ الأمواج كالجبال... كنت سآوي أنا إلى جبل يَعصِمُني... "جلجامش" وأنا نسير في خطين بلا رجعة... واسْتوَيْنا معا على الجُوديّ... وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي... وغيض الماء... ثم مات هو في الغابرين... وبقيت أنا أحمل نبْع "جلجامش"... سأحاربهم في ملحمة الأسطورة... سأقاتل المنافقين والكذابين والسفلة.... سأحمل سيفي فيهم... كلهم جبناء... إنما هم يقاتلون كقطعان ذئاب مجتمعين، فإذا ما انفرد منهم ذئب قاصية فإنني غالبه لا محالة... إنهم بلا شجاعة... هم سِيدٌ عاوية نهّاشة.


  في 19 من شهر أكتوبر، جاءني ضابط سجّان، اصطحبني إلى مكتب خاص أخبرني أن قاضيا يطلب مقابلتي رسميا، التقيت الرجل... وكان الإرهاق قد بدا على ملامحي... 10 أيام مضت على إضراب الجوع... الجسد صار خاويا... شعور حاد  بالإنهاك... هل تعلمون أن إضراب الجوع لا يعرفه إلا المناضلون الحقيقيون... النضال في مواجهة الاستبداد تجربة فريدة تمنحك قوة، وتضعف خصمك... الرجل الحرّ يخير الموت على المذلّة... وفي إضراب الجوع يفقد الطعام قيمته... ويرتفع الأنا في داخلك، فيتعاظم... فيصغر جلادك.
  قال القاضي:" جئتك للاطلاع على حالتك الصحية."... كنت تعبا غير أنني أفكر بعمق، أجبته:" إذا كنت قاضيا عسكريا ... فأنا أرفض الحديث إليك."
  :" لا لا، أنا مساعد الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف ... أنا قاض مدني."
  تأملته، كان رجلا ثابتا تبدو على قسماته ملامح الصّدق... استمر هو في حديثه:"... أنت مضرب عن الطعام، هذا من حقك، غير أنني جئتك حرصا على حياتك... القانون يفرض علينا الاعتناء بك وإقناعك بالعدول عن إضراب الجوع."


  كان الصّراع حادّا وقتها بين فريق الدفاع من المحامين وبين قضاة المحكمة العسكرية، لقد امتنعت المحكمة العادلة جدا عن إرسال ملف القضية الى الاستئناف... الملف محجوز من أجل التنكيل بشخصي، قلت للقاضي:" أنا محتجز دون موجب قانوني، وأنت تعلم أنني موقوف بقرار سياسي في خرق فاضح للقانون... القانون الذي تحدثت عنه... كسروا أضلاعه... أنا مضرب إلى حين تطبيق القانون... أو الموت."


  لم يدّخر الرجل جهدا في إقناعي بأن أرفع الإضراب... أخبرني أن محكمة الاستئناف تضمن الحقوق المشروعة لكل متهم... كان يتحدث عن مثاليات القانون... لكنه تعهّد بأن تنظر دائرة الاتهام خلال أسبوع في ملف القضية... قبلت العرض سوف أرفع الإضراب... لكنني سأعود إلى إضراب جوع وحشي إذا ما تمسك قضاء العسكر بحجب الملف.
  إنها فضيحة قانونية، أن تعمد محكمة تُمثّل رمز العدالة والإنصاف، أن تحجب ملفا قضائيا على سبيل التنكيل والتشفّي... هذه المحكمة العسكرية تدفع بالتعليمات إلى معاودة ممارسات الاستبداد ومصادرة الحريات، إنها حبيسة عهود من الظلم والقهر، هذه المحكمة أعدمت الازهر الشرايطي ومن معه دون محاكمات عادلة... وهذه المحكمة أصدرت أحكامها في مجموعة  قفصة دون أن توفر لهم حق الدفاع، وهي التي حاكمت قيادات  الإسلاميين في التسعينات، انها محكمة قمعية.


  أنا صامد هنا في مخدعي، أواجه لوبيات الفساد، تلك التي تحكم الدولة... نداء تونس تشظَّى وانكسر مثلما ينكسر البلور... شظايا ... شظايا... لن تقوم له قائمة... هو حزب تأسس نفيرا ضد الإسلاميين والخوانجية... صوَت الناس لبورقيبة ليس أكثر... ماذا بقي من بورقيبة... صنم يُبتنى في قلب الشارع الكبير للعاصمة... هذه قشور زائفة ... من أراد التشبه بالزعيم بورقيبة كان عليه ان يتشبه به في فقره ونزاهة يده ووطنيته... بورقيبة مات فقيرا بلا دار... هذا درس في السياسة  والأخلاق... رغم انني اعتبرت نفسي جزءا من النداء... كنت خائفا على وطني... وكانت السلفية الجهادية تدمر عالما عربيا بائسا...
  النهضة فشلت في الحكم... هم لا يعترفون بذلك... تلك هي الحقيقة... الفشل كان مدويّا... في نظري الغنوشي هو أحد هذا أسباب الفشل... الرجل في عمقه رجل مستبد... لقد استأثر بكل الحزب لخاصة نفسه... أطرد كل القيادات التاريخية... الرجل يريد الحكم... فشل النهضة كان سببا دفع الناس الى التصويت ضدها.


  كتبت كثيرا ضد قيادات النهضة وضد سياساتها... عارضني أبي وشقيقي الأصغر... كان شقيقي سليل حركة الاتجاه الإسلامي في الجامعة... اعتقل في حملة بن علي ضد الإسلاميين... واحتجز في معتقل رجيم معتوق سنة 1991... كان مستقلا عنهم، وناقدا لسياساتهم، ولم ينخرط في النهضة الجديدة وهي في الحكم... كان على صلة ببعض القيادات التاريخية... اتصلت بي حركة النهضة بواسطة أخي... وكانت وقتها في الحكم... رفضت ذلك.


احتدم الاستقطاب الثنائي بين العلمانيين والليبراليين وبين الإسلام السياسي كنت وقتها اعمل بجد في صحيفتي ضد النهضة... أعلمني أخي انه قابل "السيد الفرجاني" في مقر حزب النهضة وكان الرجل من الدائرة المقربة لراشد الغنوشي... كان مستاء من أحد الملفات التي نشرتها جريدة الثورة نيوز حول بعثه لشركات... دعاني شقيقي إلى العدول عن هذا الخط التحريري... كنت متحمسا للباجي منقذ البلاد، اعتقدت انه سينهض بالدولة... اخبرني أخي ان سيد الفرجاني قد قال له:" إذا لم يتوقف عن الكتابة سوف نكسر عظام يده":.. لكن النهضة لم تسجنّي حين حكمت.
  كنت على خلاف مع جميع أفراد عائلتي بخصوص العمل الاستقصائي للصحيفة... ذاك العمل تسبب لهم في عداوات لا دخل لهم فيها... وكنت أنا منطلقا كالريح تجري... هَمت بقضايا الفساد... صار عشقا وغراما أن أطارد خبرا وأن أبحث عن وثائق وصور... كان عملا يحصّل لذة في النفس وامتلاء للذات... ان تعرّي المستور من فساد منافقي السياسة الفاسدين.


  في 20 من شهر أكتوبر... تحرك أفراد من عائلتي وأصدقائي وتوجه المحامون الى ضرورة عقد ندوة صحفية... أطلعني المحامي جلال عن هذا التوجه... كان يزورني كل يوم، يحادثني ويطلعني على جميع التفاصيل، يوم الندوة كنت انتظر قدومه الي... لقد أبطأ لأن الندوة ستعقد يومها في منتصف النهار بنزل الافريكا... اخبرني جلال أن الندوة ستخرق الحصار الإعلامي المسلط على القضية... كانت لوبيات الفساد تضغط بقوة على وسائل الإعلام لمنعها من الحديث عن أول قضية رأي بعد الثورة الكاذبة... الندوة الصحفية سوف تحرجهم... وستفضح رسميا كل التجاوزات... ابلغني السجان أن المحامي قد وصل؟


  الندوة ناجحة... تم فضح كل الملفات... أخبرني المحامي جلال أن الندوة الصحفية قد جرت مثلما خطط لها... وان هيئة الدفاع قد كشفت كل ملابسات عملية الاحتجاز وفضحت الاخلالات القانونية التي ارتكبها القضاء العسكري... وأطلعني انه قد تم كشف أسماء اللوبيات المسيطرة والنافذة في قصر قرطاج والتي أدارت  عملية اختطافي.
  يا هناه، السجن زينة في جبين الرجال والأحرار... السجن عار للسرّاق واللصوص والمحتالين... أما سجن الرجال من أجل أفكارهم فهذا شرف... شوقي طبيب قد انخرط في لوبيات الحكم وهو رأس حربة في مواجهة الثورة نيوز، هو لا يعلم مدى قدرتي على المواجهة ... هذه الحرب قد بدأت ... كيف ستنتهي ؟


شوقي طبيب كان قد نشر ضدي شكاية أواخر سنة 2015 قبل أن يشغل خطة رئيس هيئة "تكريس" الفساد، كلفته سفارة قطر بمقاضاة مدير صحيفة الثورة نيوز على اثر مقال نشرته حول نشاط شبكة جواسيس في تونس... كان المقال خطيرا وفاضحا وهو يدافع عن الأمن القومي للدولة... جاءني تقرير مفصل عن نشاط مستراب وأعمال جوسسة يديرها قطريون بالوكالة...عمليات ضخ وسحب أموال تورط فيها تونسيون وقطريون... غير أن قوة نافذة في الدولة أمرت بإيقاف التحقيقات... الدولة تحمي الجواسيس....


 تحركت في دواخلي روح الوطنية... هؤلاء الاوغاد دمروا سوريا واليمن وليبيا... شوقي طبيب حليفهم، كان وقتها محاميا للشر ضد مصالح الدولة التونسية... تحمس مع القطريين... لأجل تحصيل الأموال... الرجل يوظف نفوذ هيئة الفساد من اجل الانتقام مني... هل سمعتم ذلك الكذاب يوما يعلن إحالة حوت كبير من فساد البلد المعروفين... لن يفعل ذلك لأنهم أتوا به لتبييضهم... سيكتفي بمطاردة صغار الموظفين... سيكون شماعتهم... لن يستطيع هو ممارسة السمسرة والثورة نيوز تقتفي أثره... بلغني يوما أن الرجل ينشط في قطاع الوساطة في العقارات... هذا ملف آخر سأكشفه في إبانه.  


  كل ليلة داخل السجن، تبحر تأملات الفكر إلى الله والغيب والوجود والعالم والأشياء التي في العالم وكل الموجودات والمسميات... هذا العالم غامض ومُبهم وحائر...  أراني أبحر في نهايات الوجود حيث الله اللاّمتناهي الممتدّ دائما... الله أعظم منا... والإنسان ينسى دائما هذا الرب الغائب، لا يراه إلا في ساكنة الكون... أنا الآن في ساكنة الكون.... المساجين من حولي لا يفهمون تأملات الفكر... الصوفية وحدهم ذابوا في الله الغائب... بحثوا عنه في شوق ووجْد حتى ذابوا فيه... والإنسان في ليبراليته وانصرافه المطلق إلى المادة قد قتل الروحانيات المدهشة...
  كان احد المساجين يغنى دائما أناشيد الحضرة والصوفية، "سيدي يا جيلاني"كان صوته رائعا شجيا... غير انه لا يفهم دلالات أناشيد الصوفية... يأخذه حنين إليها دون إدراك للمعنى.... والعامة من الناس لا تفقه شيئا عن أناشيد الصوفية سوى ذلك الحنين النفسي والتاريخي إلى ألحانها...  تلك الأناشيد تمتلئ بتأويل العالم وبالشوق إلى القوة الغائبة في الكون... أنا في أعماقي مؤمن جدا... ولست ملتزما دينيا.
في تأملات السجن والوحدة، تذكرت قاضي الزور ذاك الذي اصدر بطاقة إيداع بالسجن في حقي، هذا القاضي لا يخاف الله... كان قبله احد قضاة الزور بمحكمة تونس المدعو محرز الهمامي... حين سقط نظام بن علي فرّ طريدا إلى المغرب... بعد أن ظلم خلقا كثيرا... هذا القاضي الصحبي عطية لم يتعظ من تلك التجربة... انه يخالف القانون والإجراءات... سأصمد في مواجهة ظلمه وظلم أسياده... لن اقبل بالمثول أمامه ولو سجنت الدهر طوله... سأجعل منها أزمة مستمرة... فليقض ما هو قاض...


  الدولة مهتزة ومهترئة... الحكومات تتساقط فيها كأوراق التوت... يا قاضينا سوف تتبدل الأحوال وتسقط هذه الحكومة وتسقط حكومات بعدها... وسأقاضيك وأقاضي من والاك.... سأقاضيك لأنك احتجزتني وسلبت حريتي في تعسف صارخ على الحقوق والحريات... يا قاضي الزور أنت ترتكب خطيئة يجرمها الدستور والمواثيق الدولية... وأنا أعلم انك قِنٌّ مأمور.
جمعت في أيام السجن هذه تجارب متراكمة للسجناء... المظلوم فيهم والظالم ... انه عالم مغلق وغريب ... أقبية وأبنية وحراس، وأصوات كلاب تنبح، وقيود وأصفاد وأبواب مغلقة... وأزيز الباب يقزز أذنيك... السجانون يرقبونني بحذر ماذا افعل ؟ وماذا أقول؟
 وحين يلتقيني احد المحامين في الغرفة الخاصة تراهم يسّارعون من ورائي إلى أجهزة التنصّت... هذا غباء ... أنا صحفي وصاحب جريدة... كان عليهم أن يخصصوا ذاك الجهد الى جماعات الإرهاب... ثم تشتغل كاميراوات المراقبة المدسوسة خفية في الحيطان... تبحث عن شيء ضائع... الدولة يحكمها كبار اللصوص... الثورة ماتت.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire