lundi 5 septembre 2016

يا صاحبي السجن أو قصة سجن القاضي(الحلقة الثالثة) : "سجنوني"




صورة حديثة للقاضي الشريف المكي بنعمار
سفّاح كاليفورنيا:
( الأدب الجيّد يكتبه أولئك الذين يضعون مشاعرهم جانبا . غابرييل غارسيا ماركيز ) .
سألني المحامي عن إقامتي في السجن فأخبرته أني تدربت على اصطياد " البق " . وسألته بدوري عن حال البق المنتشر في الخارج ;فقال إن كبيرهم الذي علمهم الفساد أرهب المحامين لحملهم على التخلي عني . ورغم ذلك فقد تشكل فريق من خمسة عشر محاميا للدفاع عني. في هذه الأثناء ;روجت وسائل الإعلام ما أشاعه الناطق عن المحكمة بشأني . لكن صحيفة الثورة نيوز قلبت عليهم ظهر المجن فانقسم الرأي العام على نفسه . قلت له :" وما أخبار الحاجة مباركة ؟ " . قال :" الحاجة.. الحاجة تمت تبرئتها من كل ما نسب إليها وسيقع تعويضها كضحية !" . فقلت : " خمارها !خمارها اللعين هو الذي أنقذها . فمن ذا يصدق أن الحاجة مباركة .. التي تقوم الليل وتصوم النهار ; قد تستولي على العقار. إن التظاهر بالتدين هو أنجع طريقة ابتكرها المخادعون لغش الناس " . قال :" دعنا الآن من الحاجة مباركة ولنتحدث في المهم " . فقلت له ساخطا :" ولكن يا أستاذ .. إن خمارها ... " . فقاطعني قائلا :" هات حدثني .. كيف بدأت مشاكلك مع الرحمونيين ؟ " . قلت :" كان ذلك منذ عام . يومها ذهبت لبيت العائلة . وكانت الأم بصدد إلقاء محاضرة عن النمل الأبيض. استمرت المحاضرة تسع ساعات وقد حضرها خمسون رحمونيا و رحمونية وبعض المندسين من فلول النقابة الذين كانوا يتحينون الفرصة للإيقاع بالأم " . فقاطعني المحامي والاهتمام باد على وجهه :" ولكن يا رئيس ..كيف تدخل عش الدبابير برجليك ؟ " . قلت له :" بعد فشل صلح الحديبية بين الجمعية والنقابة تجدد الاقتتال بين القبيلتين فكانت الغلبة للجمعية . فانشق بعض القضاة عن النقابة وراحوا يطلبون الأمان من الأم . فرفضت هذه استقبالهم لكنها أصدرت مرسوم عهد الأمان وأمرت المنادين بنشره في المحاكم . وبينما كنت في مكتبي سمعت احد أولئك المنادين ينادي في أروقة المحكمة : " من تبرع للجمعية فهو آمن . ومن انشق عن النقابة فهو آمن . والمنبطح آمن . والقواد آمن . وال... " . ثم انقطع الصوت فجأة فظننت أن صاحب شرطة المحكمة قبض على المنادي . لكنه ظهر من جديد أمام مكتبي وصاح بأعلى صوته : " ومن دخل دار الأم فهو آمن " . فقلت أروح أنا أيضا أطلب الأمان فلا أحد أصبح آمنا على رأسه هذه الأيام . فأغلقت مكتبي ورحت لبيت العائلة فوجدت الأم تحاضر عن النمل الأبيض وبجانبها الكاهن الأعظم يلقي البخور ويرتل التعاويذ لطرد الأرواح الشريرة لان تلك المرأة التي تؤمن بالأساطير كانت تسكنها فكرة أن نهايتها ستكون بسبب خيانة . وفي نهاية المحاضرة قررت أن بيانات الشجب والتنديد لم تعد كافية للقضاء على النمل الأبيض لذا وجب البحث عن طريقة أخرى للتخلص من تلك الحشرات الضارة التي أصبحت تقضم أساسات البيت و تهدد بانهياره على رؤوس ساكنيه فتذهب تضحيات الأم في السنين الماضية أدراج الرياح . وجف حلق الأم من الحديث فشربت من شراب النعناع الذي تحبه كثيرا فجحظت عيناها وصار صوتها أجش ووجهها مخيفا . ورفعت رأسها إلى سقف القاعة وفمها مفتوح وبقيت شاخصة إلى السقف كسحلية متحجرة . فحبس الرحمونيون أنفاسهم ظنا منهم أن الأم على وشك ان تقول شيئا خطيرا . لكنها عادت للكلام من جديد وجعلت تغمغم بكلمات غير مفهومة " كفاحي .. أنا التاريخ .. لا وزير بعد اليوم .. خونة .. أنا الوزير .. استقلال السلطة .. انقلاب 2005 .. الثورة نيوز .. " . فقلت للرحموني الجالس بجنبي : " أظن ان الأم قد وقعت تحت تأثير الشراب " . فسمعني الرحمونيون الذين يجلسون أمامي فالتفتوا إلي كالذئاب . وعادت الأم إلى وعيها فقالت : لقد قمت بعدة دراسات تبين لي من خلالها أن النمل الأبيض ينقسم إلى صنفين . صنف يعيش في المستعمرات وهذا النوع من النمل يمكن القضاء عليه في جحوره بحبسه فيها حتى يموت جوعا . والصنف الآخر هو النمل الأبيض الطيار . وهذا النوع من النمل المجنح أخطر من النوع الأول لأنه في موسم هطول الأمطار تنبت له أجنحة يسافر بها إلى خارج البلد ويجلب معه أسرابا أخرى فتصعب معالجته. لذلك يجب قص أجنحته ومنعه من التحليق وذلك بتحجير السفر عليه. فهبت موجة من التصفيق والهتاف بحياة الأم ارتجت لها القاعة. واستغرق التصفيق وقتا أطول من وقت المحاضرة. ووقف الرحمونيون يحيون الأم بتلك التحية الرومانية التي كان الألمان يحيون بها الفوهرر . وبينما كان الرحمونيون يهتفون : " هاي آمنا !", ارتكبت أنا حماقة عندما قاطعت هتافهم وقلت للام : " ولكنك يا آمي ألقيت علينا هذه المحاضرة في السابق ". فكلفني ذلك تسعمائة وتسعة وتسعين صفعة وألفا وخمسة وستين لكمة . وفيما كان الرحمونيون يضربونني كانت الرحمونيات يبصقن علي . ثم قذف بي إلى الخارج كالكرة . واعتبر ذلك اليوم في التاريخ الرحموني يوم القبض على خائن " . فقال المحامي بانتباه شديد :" هذا أفضل من أن تموت بين أيديهم كصرصور " . فقلت له : " لقد نجوت بأعجوبة . فالدخول لمعاقل الرحمونيين أمر محفوف بالمخاطر " . قال المحامي :" وماذا حدث بعد ذلك ؟ " . قلت :" لا شيء .. حلت علي لعنة الأم . أرسلت في البداية إلى الرازي للتثبت من سلامة مداركي العقلية . ثم أوقفت عن عملي . وها أنا الآن قابع في السجن " .
في اليوم الموالي خرجنا للاستراحة في الصباح الباكر . وفيما كنت أتمشى مع " سيدنا " سمعنا صرخة مكتومة تشبه صوت الحيوان المذبوح تأتي من طرف الساحة . كان هناك رجل يتخبط على الأرض ممسكا يده وبجانبه بقعة من الدم . انهمر السجناء كالسيل يستطلعون الأمر . لقد قطع السجين وريده بشفرة حلاقة . فقال رفاقه في الغرفة إنه كان منذ مدة يهدد بالانتحار لان إيقافه تجاوز المدة القانونية ,ورغم ذلك بقي موقوفا على ذمة التحقيق . فقال سجين أصلع كان يمضغ الخبز : " لقد أصبح الإنسان في هذه البلاد ال...( لفظة قبيحة) أرخص من ربطة البصل " . وجاء الممرض يسبقه عون كان يلعن اليوم الذي دخل فيه إلى الخدمة فاحتملوا الجريح إلى العيادة وأرجعونا إلى العنابر.واستدعى السجين الأصلع لمكتب المدير.  سألني سيدنا :" ما رأيك ؟ " . قلت :" في ماذا ؟ " . قال :" فيما رأيت " . قلت :" انه لأمر جميل أن يفتح المرء عينيه صباحا على مشهد الدم !" . تلك الحادثة حركت شجون السجناء فطفقوا يتبرمون من ظلاماتهم .قال "ع" ( صاحب محل لبيع الهواتف الجوالة ) :" أنا لم أتحيل على أحد .. لكن الشاكي كان مسنودا .." . و قال " ولد الشيبة " ( مقاول ) :" وأنا حكم علي بعشر سنوات لأني لم أدفع الرشوة " . وقال " ح " ( ممرض ) :" وأنا طبقت القانون ,فوجدت نفسي في السجن . لقد رفضت السماح لمساعد وكيل الجمهورية فلان بزيارة قريبه خارج وقت الزيارة .. وبعد أربعة أيام من ذلك ,وجدت نفسي مورطا في قضية تدليس شهادة طبية " . وقال سجين آخر : " وأنا أفتكت مني ارضي ثم أودعت السجن لان سي فلان بات مع عاهرة " ... . فصار العم مسعود يتأتئ :" ااا..ل..حق..م..شا..معا..سي..يد..نا..ع..مر" ( الحق مشى مع سيدنا عمر ) . وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي سمعت فيها ذلك الشيخ يتكلم لأنه بعد ذلك فقد القدرة على النطق . لقد كان رمزا . كنت أرى فيه الحق العاجز عن الكلام . عاودني الدوار وأنا استمع للسجناء فأسرعت إلى دورة المياه لاتقيأ . وفيما كان حديث السجناء يصلني وأنا في دورة المياه كان الدوار يشتد علي حتى كدت أقذف أحشائي . وظل العم مسعود يعقب على كل كلمة :" الحق مشى ... " . ولن أرى العم مسعود أبدا عندما تتدهور صحتي في اليوم الرابع من إضراب الجوع . في ذلك اليوم أنزلوني المستشفى مكبلا بالسلاسل, يخفرني خمسة أعوان مدججين بالسلاح كما لو كنت سفاح كاليفورنيا . فلما دخلنا كانت قاعة الاستقبال تغص بالمرضى والمواطنين فكانوا يختلسون الي النظر. وعندما أوقفني الحراس في الرواق انتظر دوري جاءت مجموعة من الأطفال الوسخين واصطفوا قبالتي يتفرجون علي . فكان الأعوان يهشونهم لكن أولئك الصبية سرعان ما يرجعون كالذباب . وجاءت أمهاتهم يزفون لأخذهم . فقال طفل لامه وهو يشير إلي :" انظري يا أمي الشرطة قبضت على المجرم " . وقال طفل آخر كان المخاط يسيل من انفه :" ماذا فعل يا أمي ؟ " . واختبأت طفلة كانت تمص الحلوى خلف أمها وجعلت تطل علي بعين واحدة . ورفض صبي أن يرجع مع والدته فضربته عدة صفعات على مؤخرته وهي تصرخ : " امشي معايا يا مدعي يا منقوط  ..


,والصبي يبكي ويقول لها :" اتركيني يا أمي .. أريد أن أتفرج على المجرم !" . فقال أعوان السجون :" لا حول ولا قوة إلا بالله !" . أكاد أشعر بخيبة الأمل . فقلت للمرأة التي كانت تضرب ولدها : " دعيه فليفعل ! دعيه يتفرج على القاضي المكبل بالسلاسل ! دعوا أولادكم يتفرجون على ما أعده لهم آباؤهم ". فارتبك الأعوان وحاولوا إسكاتي دون فائدة . " أيها الناس ! لقد قتلوا الفيل المقدس ( العدل ) ولم يتركوا لكم فيلا تركبون عليه ... " . وألقيت على مسامع المواطنين خطبة تشبه تلك التي ألقيتها على السجناء في أول يوم لي بالسجن . عندها علموا بأنني قاض فسرى التململ بينهم . وقالت عجوز لم يكن لديها ما تخسره : " ربي يصبرك يا وليدي .. بلاد خاربة من رأسها لساسها .. " . فلما رأت المرأة المسنة أعوان السجن ينظرون إليها صارت تسعل وتتمخط على الأرض .  فدخلت ثلاث ممرضات قصيرات وسمينات يمشين خلف بعضهن البعض  وقد بدا من هيئتهن أنهن عوانس . فطفن بالمرضى الثلاثة وكن كلما قالت إحداهن شيئا ضحكت الأخريان دون سبب . فلما جئن إلي يسألنني عن حالتي اخبرهن أعوان السجن أنني مضرب عن الطعام فقالت إحداهن :" أنت لازم تشوفك الطبيبة .. ".  فضحكت صاحبتاها وخرجن تتبع إحداهن الأخرى . فقلت :" يا له من مستشفى ملعون !" . وعندما أرجعوني إلى السجن لم أعثر على العم مسعود . فتوجهت فورا إلى مكتب المدير ولم تفلح جهود ثلاثة أعوان وملازم في منعي من الدخول . سالت المدير : " أين العم مسعود ؟ أين أخذتموه ؟ هيا اجبني !" . قال : " عمك مسعود ذهب إلى غير رجعة " . انتبهت من نوبة الغثيان على صوت الكبران يسألني :" هل أنت بخير يا رئيس ؟ " . قلت له :" نوبة غثيان جديدة ". قال :" تقيأ .. نعم تقيأ .. فالقيء وحده سيساعدك على التخلص من تلك القذارات .. " . فلما رجعت للسجناء وجدتهم يستعدون لصلاة فك الأسر . أصبح إضراب الجوع على الأبواب .
( في الحلقة القادمة والأخيرة : إضراب الجوع  الكبير .." الكونفة " إلى صفاقس .. ماذا حصل في غرفة الموقوفين في قضية  " الفوشيك " ؟ .. جمعية القضاة تسعى لإبقائي في السجن .. والثورة نيوز تهديني الحرية )



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire