mercredi 10 août 2016

هزائم السياسيين في تونس : من حكومة إلى حكومة




  تعيش البلاد التونسية أزمة بنيوية ، وهي لا تكاد تخرج من أزمة سياسية حتى تغرق في أزمة أخرى، إنها أزمات متعاقبة تُنبّهنا إلى خلل عميق في البِنَى السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إنه بنيان مختلّ يهتزّ ويَسَّاقط عند كل زَلزلة.
  وحين نتأمل عمق الأزمة يتبدّى لنا أن النظام السياسي القائم ما بعد دولة "زين العابدين بن علي" هو النظام البرلماني المعدل وهو الذي أسس له الدستور الجديد... هذا النظام السياسي الذي اختارته الطبقة السياسية قابل للنقد ولمعاودة النظر، بمعنى انه ليس فكرة دينية مقدسة و ليس لاهوتا، لقد اتضح انه نظام قاصر تماما .


 وقد أدّى هذا النظام البرلماني المعدل والمشوّه إلى تشتيت مركزية السلطة وحوّلها من سلطة مُجمَّعة عند رئيس الدولة، إلى سلطة تتشارك فيها أحزاب متنوعة ... ينضاف إلى ذلك أن النظام الانتخابي قد سمح لأحزاب صغيرة وضعيفة بالدخول إلى البرلمان والمشاركة في الحكم وذلك باحتساب أفضل البقايا، مما رسم مشهدا متنوعا تنوعا واسعا داخل المجلس، وساهم في تفتيت البرلمان وإضعاف دوره التشريعي، وخلق خللا واضحا في بنيته، ذلك أن كل القرارات لم يعد بالإمكان تمريرها خارج مبدأ التوافق.. وما التوافق سوى حيلة سياسية استنبطت لرتق الخلل في النظام البرلماني.
  ولعل توزّع السلطة السياسية بين أحزاب مؤتلفة على قاعدة المحاصصة قد أدى أيضا إلى ولادة حكومات ضعيفة ومنفرطة العِقْد... تلك الحكومات سرعان ما تسقط دون أن تقدر على إنفاذ مشاريعها هذا إن كان لها مشاريع... هكذا فشلت كل الحكومات في إنقاذ البلاد من أزمتها، من حكومة الباجي قايد السبسي، الى حكومة حمادي الجبالي وحكومة علي العريض وحكومة المهدي جمعة وحكومة الحبيب الصيد... فشل الجميع دون ريب... كانت خيبة مريرة ومؤلمة لهذا الشعب البائس والفقير.
  ما هو السبب الجامع الذي أسقط كل هذه الحكومات بوزرائها وأحزابها؟
  هل يوجد خيط رفيع يفسّر أسباب الفشل السياسي ؟



   قد نرى أن هذا النظام البرلماني قد فشل فعلا في إدارة دواليب الدولة ولم يقدر على تصريف الأعمال والقرارات، لأن هذا النظام قائم على المحاصصة الحزبية، بمعنى أن الأحزاب المتحالفة تقتسم الوزارات في ما بينها، ويكون رئيس الحكومة أشبه بكبير الموظفين ... إنها تشكيلة حكومية يخضع فيها الوزير لسلطان الحزب ولا يخضع أبدا لسلطة رئيس الحكومة إلا شكليا... هكذا رسمت صورة الحبيب الصيد باعتباره كبيرا للموظفين ولم يستطع الرجل رغم تجربته السياسية ان ينهض بالدولة والإدارة.
  ومن عيوب النظام البرلماني أن رئيس الحكومة ذاته يتقاسم عددا من الصلاحيات مع رئيس الدولة في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع وعدد آخر من القرارات، فتنشأ بينهما ضرورة صراعات وتعارض في القرارات والتصورات.
  ونحن نرى الآن الطبقة السياسية الفائزة في الانتخابات بصدد الإعداد لحكومة جديدة بعد سحب الثقة من حكومة الحبيب الصيد... ولن يكون مصير هذه الحكومة أفضل من سابقاتها ... ستعيش الحكومة المقبلة سنة أو يزيد ثم ستنهار لذات الأسباب : الفشل في النهوض بالبلاد من أزمتها
 وفي التقدير فان الطبقة السياسية التي كانت تعارض نظامي بن علي وبورقيبة لم تكن تمتلك أي رؤية اقتصادية واجتماعية وطنية وثابتة بدليل أن هذه الطبقة السياسية في مجملها لم تستطع أن تقدم بديلا اقتصاديا يحقق العدالة الاجتماعية والرفاهية المادية.
  إنها طبقة تحكم ولا تمتلك رؤى مستقبلية عميقة في الاقتصاد والتعليم والصحة والتشغيل وفي القضاء وفي الأمن القومي... ففي مجال التعليم فقدت الدولة التونسية أفضل ما تفتخر به بين الأمم وهو التعليم الجيد والمتماسك للمعارف وللعلوم... صرنا اليوم بلا معارف ولا علوم توزع الشهائد العلمية الزائفة على جيل جاهل وأمّيّ، لقد تم تدمير العقل التونسي نهائيا... وكل الحكومات السابقة لم تتحوز إرادة وطنية صارمة لمعاودة بناء التعليم الذي رسمه "محمود المسعدي" في المدارس والجامعات التونسية ذلك النظام التعليمي الذي تخرجت فيه أفضل الكفاءات التونسية.


  أما قطاع الصحة فقد انهار تماما وتحول من قطاع عمومي يوفر الصحة المجانية للمواطن التونسي إلى قطاع للمضاربات والسمسمرة والبحث عن الربح الأقصى بكل الوسائل... صارت الصحة العامة مجالا تستبيحه الرأسمالية المتوحشة لتحقيق مزيد من الثراء... فبنيت المصحات الخاصة في كل المدن والأحياء وصار الحق في الصحة والشفاء حكرا لأصحاب الأموال... وانهار قطاع الصحة العمومية وتم تخريبه في بنيته العميقة.
  وفي مجال الاقتصاد توسع الشرخ القائم بين أقلية تحتكر الثروات العامة وأغلبية مفقّرة ومهمّشة، هذه الرأسمالية المحلية تلك التي تمتلك ثروات فاحشة وتتحرك فيها نوازع الأنانية الفردية لا ترغب أبدا في أن تساهم في إنقاذ الاقتصاد الوطني لان الرأسمالية لا تخضع لقيم الوطنية بقدر خضوعها لقاعدة الربح الأقصى والجشع المرضي إلى مزيد من الثراء... كانت طبقة كبار الأثرياء قبل الثورة البائسة، خاضعة لسلطة نظام بن علي بلا طموحات سياسية تنشط أساسا في المجال الراضي وكرة القدم ، غير ان الثورة منحتها فرصة تاريخية لممارسة دور سياسي واسع ومؤثر وخانق، لقد تغلغلت في الأحزاب السياسية ودخلت قبة البرلمان وسيطرت على وسائل الإعلام وشكلت لوبيات ذات وزن سياسي... وتجلى ذلك في حضورها ممثلة بمنظمة الأعراف في الرباعي الراعي للحوار الوطني.... لقد عطلت تلك اللوبيات المالية أي إمكانية لإصلاح الاقتصاد على أسس وطنية تراعي المصالح العامة للدولة وتنتصر لفكرة العدالة في توزيع الثروات... أدى ذلك إلى إفلاس المالية العمومية وانهارت مصادر الجباية التي تَتأتّى عادة من طبقة الأثرياء.


  في هذا الزمن الرديء، اتضح أن الطبقة السياسية التونسية في أغلبها إنما هي طبقة انتهازية وفاشلة، لم تقدر على قيادة شعبها إلى الحرية والرّفاه والأمان، ولم تستطع أن تقدم بدائل وطنية تدافع عن المصالح العليا للدولة... إنها طبقة سياسية استولت على السلطة بحيلة الديمقراطية وشرعية الانتخاب وتريد أن تستمر في وَطْء الغنيمة دهرها، وليست مستعدة للتنازل عن السلطة رغم خيبتها...إنها تقدم في كل أزمة من أزماتها حكومة جديدة ووجوها أخرى لامتصاص آثار الخيبة، غير أن الأزمة العميقة تستمر في خنق العامة والخاصة... إذ ما معنى أن تتبدل الحكومات كل سنة ؟ أليس هذا دليلا على فقدان الاستمرار والاستقرار والرؤية الاستراتيجية للمستقبل؟
  هل بمقدور رئيس الحكومة المقبل وحكومته أن ينهض بالدولة المترنحة؟؟؟
قطعا لا...
  إن الحكومة المقبلة ستكون مسكّنا لأوجاع الدولة وجراحات الوطن ليس أكثر، وسيحتاج الناس إلى مسكنات أخرى إنما تؤخر هزة اجتماعية قوية وأزمة اقتصادية متفاقمة... إنها دولة تعيش منذ 5 سنوات على الاقتراض الدولي والتسوّل على عتبات كبار البنوك... دولة ينقطع الماء والكهرباء وتشقها الإضرابات صباح مساء وينتشر فيها كبار اللصوص من الحيتان العظيمة في ثوب التّقاة... هي دولة مريضة حتى النخاع ولا أمل سوى الله.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire