mardi 1 décembre 2015

قراءة في دلالات تفجير الحافلة الأمنية بتونس: الوزارة المَهزُومة والإرهاب




  كان التفجير الذي هزّ حافلة الحرس الرئاسي  قرب وزارة الداخلية بشارع محمد الخامس مفزعا وصادما... جثث محترقة ودخان وفوضى مخيفة... كانت عملية إرهابية دنيئة... غير أنها كشفت القناع عن عيوب كثيرة في  إدارة الأزمة في وزارة الداخلية ... كان التفجير هزيمة للوزارة وهزيمة لكل الوطن...لأن الجوقة الإعلامية والسياسية كانت دائما تتحرك من أجل إخفاء الحقائق والتخفيف من ردود الأفعال، حدث ذلك إثر عملية متحف باردو وعملية النزل السياحي بسوسة  
كيف استطاع الإرهاب أن يُخطط وينفّذ بتلك الدّقة والسّهولة والقوة ؟
بماذا نفسر الاختراق الاستخباري في تحديد هدف حسّاس هم أعوان الحرس الرئاسي ؟هل توجد  فعلا استراتيجية للتّصدي للإرهاب في إدارة الداخلية؟
  مثل هذه الأسئلة تعبر عن تداعيات الحدث المُدوّي. انه انفجار قاتل، إلا أنه قاتل أكثر حين نترصد أسباب الفشل الأمني والاستعلامي.  وكلّ الذين تنادوا إلى الوحدة الوطنية في مواجهة الأخطار المحدقة بالدولة، من سياسيين وإعلاميين وحقوقيين، إنما فعلوا ذلك نصرة لدولة ديمقراطية تريد أن تستمرّ وأن تبقى قويّة منيعة... بقي أنّ كل ذلك لا يجب أن يحجب عنا قراءة الحدث قراءة نقدية موضوعية تترصد مواضع الخلل والتقصير... لأنّ العاقل إذا ما هُزم في واقعة، فإنه مدعوّ إلى نقد الذّات وتتبّع العُيوب والنقائص... أمّا إذا أراد أن يستمر مهزوما خائبا، فما عليه إلا أن يمدح ويمجد ويقول:" إنني على صواب وفي خيرعميم وما وقع في تونس قد وقع في دول كبرى."
  يا سادتي... هذا الاغتيال المدبر بدقة وبعنف في حق أعوان الرئاسة، يستدعي مراجعات عميقة للسياسات الأمنية في وزارة الداخلية بكل أجهزتها،لأن تفجير حافلة تقل أعوانا ينتمون إلى الحرس الرئاسي ذاك الذي يُعتبر جهازا من بين الأجهزة الأقوى في الدولة، ليس حدثا عابرا... إنه جهاز مستقل يتحوّز أفضل التجهيزات والأسلحة والمعدات... فكيف نقرأ دلالات الانتكاسة ؟


   لسنا هنا بصدد الحطّ من معنويات الجند في حرس الرئاسة، وإنما نحن نبحث عن استقراء موضوعي لأسباب الفشل الأمني... ولعل الحدث يُنْبئُ بأن طرق العمل في هذا الجهاز تقليدية منذ أكثر من 20 عاما... في أساليب الحراسة والحماية، ودليلنا في ذلك أن مكان تجمع الأعوان في شارع محمد الخامس قديم، وقد تمّ رصده بسهولة ودقة من قبل العناصر الإرهابية، وبالتالي استهدفوه في مقتل... هذا يعني أننا إزاء فشل أمني يتعلق بمناهج العمل في جهاز الأمن الرئاسي  وأنها تحتاج إلى معاودة النظر في خططها وحتى في بعض قياداتها التي تتحمل جزءا هاما من المسؤولية في نطاق عملها.
  أَمَا وقد حدثت الواقعة على بعد بضعة أمتار من وزارة الداخلية، فذلك أَدْهَى وأَمَرُّ... ولا يجب أن يُحمل كلامنا على غير محمله، لأن تونس وطن لكل التونسيين وليست ملكا لمسؤول أو وزير أو حزب من الأحزاب... بل يجب الإقرار هنا بأن وزارة الداخلية قد حققت بعض الانتصارات في مواجهتها للإرهاب، خاصة في تلك العمليات التي نفذتها الفرقة المختصة لمكافحة الإرهاب للحرس الوطني...
  بَيْد أن ذلك لا يخفي أبدا بعض الهزائم ... والحرب سجال "يوم لك ويوم عليك"... والتفجير كان هزيمة أمنية وعسكرية وهي هزيمة تستدعي معاودة النظر في الخطط الاستراتيجية للأمن... ولعل وزير الداخلية قد سمع الصوت المدوي للتفجير وهو في مكتبه الفاخر في الوزارة... إنها  إهانة لهيبة الدولة حين تضرب على عتبات الوزارة. وإهانة لشخصه باعتباره المسؤول الأول عن الوزارة وسياساتها.
  وقد نتساءل نحن: لو أراد هذا الإرهابي ضرب مقر وزارة الداخلية، ربما لاستطاع ذلك ؟ ولا شيء يمنعه، لأن الإجراءات الأمنية تقليدية جدا، وُضعت كخطة أمنية منذ عهد الجنرال "علي السرياطي" في بداية التسعينات وفي ظروف مخالفة تماما... والعالم الآن قد تغيّر والإرهاب قد تبدّل... ينتهي بنا ذلك إلى الإقرار بوجود خلل عميق صلب وزارة الداخلية... نُدلي بهذا الاستنتاج الحقيقي والمؤلم، غيرةً لأجل وطن حزين ليس أكثر.


  والغريب أن كل أجهزة الوزارة كانت في أوج استنفارها استعدادا لعملية مَّا... التقديرات كانت فاشلة أيضا ... لأن الإرهاب باغت وضرب هدفا لم تُقدّر الوزارة أنّه يمكن أن يكون هدفا... وفي ذلك فشل في التقدير كذلك.
   هنالك فشل في القيادة، لأن أجهزة الوزارة تفتقد إلى التنسيق وإلى الكفاءة القيادية... وهذا واضح وجليّ ... وكل الملاحظين قد استنتجوا أنه لا يوجد تنسيق متكامل بين أجهزة الأمن الوطني والشرطة، وبين أجهزة الحرس الوطني، وبين المؤسسة العسكرية.. يمكن أن نتحدث عن تنسيق معين في مستوى محدد، إلا أنه صوري لا يتجاوز محاضر الاجتماعات... وهذا التشتت في العمل والاستعلام والاستخبار والتخطيط والتنفيذ والقرار، قد أدى إلى وقوع ثلاث عمليات إرهابية كبرى... حدث ذلك في متحف باردو وفي نزل سوسة وفي شارع محمد الخامس... إنها ثلاث هزائم لم تتعلّم منها وزارة الداخلية، وإن استمر الحال على ما هو عليه، فإن مثل هذه الأحداث سوف تتكرر.
  وهذا الفشل يطال إدارة الأمن العمومي وإدارة المختصة والاستعلام والاستخبار... ولعل تشتت القيادات وانتظار القرار الفوقي وفقدان روح المبادرة والتخطيط الميداني وغياب الكفاءة والاقتدار لدى بعض المسؤولين الذين تم تعيينهم ليس على قاعدة الكفاءة بل على   قاعدة الولاء والقرابة والصداقة... كل ذلك كان سببا في تكرار الفشل الصادم.
  قد نقترح هنا ونحن في عزاء وطني أن المرحلة هي حالة حرب... نعم إن الدولة والشعب يتعرضان لغزو يعادل غزو المغول للشرق... إنهم "مغُول" الألفية الثالثة، عُنفا وقسْوةً ووحشيّة... وهذا العدو يتضخّم ويكبر  ويزداد قدرة على إصابة أهدافه... ومن يقلل من حجم العملية الإرهابية  استخباريا وعسكريا فإنه أحمق ابن أحمق... هذه العملية يسميها أهل الإرهاب بالعملية الإنغماسية، تلك التي تُنفّذ في سياق حرب النّكَاية والتَّنكيل من أجل التمهيد للفوضى وإسقاط الدولة، وزرع الرّعب بين السكان، ثم ينتقلون إلى مرحلة السيطرة على بعض الأحياء  ومن ثَمَّ إقامة إمارات إسلامية مستقلة.. هذه عقيدتهم .


   يا وزير الداخلية ما هي عقيدتك ؟ وأنت، أيها المسؤول الأمني البارز الذي عيّنه هذا الحزب أو ذاك ، وأنت في عليائك وسياراتك وسُوَّاقك وخدمك وحشمك وبهرج سلطانك... أين خطتك وعبقريتك وكفاءتك وأنت ترى مشهد الجثث المحترقة؟
   لسنا هنا بصدد توزيع صكوك الوطنية أو تُهَم الخيانة، إنما نَحْكي وَجَع الوطن البائس... وجعي أنا، ذلك التونسي الحالم بالحرية والديمقراطية والرخاء الاقتصادي والأمن والأمان... أنا ذلك الإنسان الموجوع والمَوْتُورُ ... أنا الذي بَكيْت لأجل الحرس المغدورين غيلةً ... ودَمَعت منّي العين لأجل صغارهم وزوجاتهم وأمهاتهم... من حقي أنا أن أحاسب كل مسؤول يُهزم في ميدان الحرب، وأن أحاسبه عن تقصيره حين يترك جنوده يُعدمون حرقا بالتفجير على قارعة الطريق.
  يا وزير الداخلية,... يجب أن تمتلك قدرا من الشجاعة ومن الوطنية وان تعترف بأنك رجل قانون، فقيه في النصوص القانونية، وفي أحكام القضاء، غير أنك لا تمتلك تكوينا عسكريا أو أمنيا... سيدي المحترم عليك أن تستقيل... وهذا الوطن يحتاج إلى قائد عسكري أو أمني يدير وزارة الداخلية لأننا في حالة حرب.. والحرب هي عمل لمَن تلقى تكوينا عسكريا... نريد وزيرا للحرب وإن اقتضى الحال أن تتوحّد القيادة بين وزارة الدفاع ووزارة الداخلية وأن نشرع في إصلاحات عميقة... الدولة الآن لا تحتاج إلى أصحاب التكوين المدني في وزارة الداخلية مع احترامي لأعوان الوزارة من حملة التكوين المدني، إنها تحتاج إلى عمل ميداني في العلوم العسكرية والأمنية التطبيقية... إنها تحتاج إلى مقاتلين ميدانيين وكفى.
   مَا عَاد مهمّا أن يتخرج سنويا أعوان في الأمن والحرس، يختصون بمواجهة المظاهرات وحماية مقابلات كرة القدم وتأمين الحفلات الغنائية... الأحوال قد تغيرت إنها الحرب .. وهي حرب طويلة ومنهكة، سوف تستمر لأكثر من 10 سنوات...
   لقد اتضح جليّا وجود ثغرة واسعة في جسم وزارة الداخلية، إنها إدارة بلا قائد، فقد تم حذف خطة المدير العام للأمن الوطني، وتم إسناد الخطط والمسؤوليات إلى أشخاص يفتقدون إلى الكفاءة في التسيير الميداني خاصة منها إدارة الإرهاب تلك المكلفة بالاستعلام عن العمليات الإرهابية... إنها إدارة بلا نتائج تقريبا .. بل نكاد نجزم أنها غائبة تماما.


  ثم إن الفشل في إدارة الأزمة يستوجب من الوزارة أن تسارع إلى مراجعة خططها في التمركز والمراقبة والاستعلام والاستباق والتنصّت...
   ماذا ينتظر المسؤول السياسي في الدولة ؟ علينا أن نعيد فورا التجنيد الإجباري للشباب والخدمة العسكرية، وأن نعلّم السّكان حمل السلاح، وروح القتال من أجل الوطن... وأن نفتح دورات تدريبية من أجل الذود عن الوطن بالسلاح، وعلينا أن نرصد ميزانية أكبر لأننا نحتاج إلى اقتصاد حرب...
  يا سادتي... في اقتصاد الحرب يجب على الفئة الغنية التي تحتكر الثروات أن تدفع للدولة جباية ومكوسا وأداءات من أجل أن تحمي ثرواتها وثروات الوطن ... ويجب على الدولة أن تكف عن سلب الفقراء والطبقات المسحوقة باسم الجباية، من أجل أن توفر عدالة اجتماعية واستقرارا اقتصاديا يشد الفرد الكادح إلى  وطنه ويدفعه الى العمل والتضحية.
  يا سادتي... ما يؤلم حقا أن الوطن يندفع بقوة إلى حرب طاحنة ضد الإرهاب، والطبقة السياسية مشغولة بصراعاتها ومؤامراتها من أجل منافع الحكم وتقاسم غنيمة الدولة  .



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire