تحولنا إلى بعض الضيعات و جبنا أراضي هنشير النفيضة فأصبنا بالذهول فسألنا عن هذه الكارثة
الفلاحية التي غدا عليها الهنشير
وضيعاته فكانت الأجوبة أشبه ما
يكون بالبكاء على الأطلال تلخصت في عنوان واحد "يا حسرة على هنشير
النفيضة"...
فالصورة التي التقطناها أمّحت منها معاني الأمل و ارتسم
عليها كم هائل من الإحباط و خيبة الأمل و كأن بالأرض تحدثنا عن موت قريب..حيث
تناثرت هنا وهناك آلات و معدات
فلاحية منها ما أكلها الصدأ و منها ما
يزال يحتضر يودع آخر أجال صلوحيته. وغابات من الزياتين لم يلامسها
"محراث" الجرارات و لم تدسها
عجلاتها ..و أشجار زياتين أيضا لم تطلها يد "التقليم او "الزبيرة "
كما يتداول عند العامة . ارض بور ترتع فيه المواشي والناس لا يأكلون إلا ترابا ...
هي صور مقتطعة تؤكد أن الوضعية الحالية لهنشير النفيضة اقل
ما يقال عنها أنها مرة كطعم الحنظل وشائكة كالنباتات الشوكية الطفيلية التي طافت
على الأرض المهملة
هكذا أصبحت اليوم
ضيعات هنشير النفيضة التابعة لديوان الأراضي الدولية حيث نهشتها يد الإهمال و تلاعبت بها وطمست تاريخها
الزاخر...
إتلاف لا حدود له و مرض داهم ارض شاسعة خصبة فأصابها بالعقم
... بعد إن كان قوة إشعاع فلاحي يدر أجود المنتوجات من الحبوب و الثمار و الخضروات
و ألذها مذاقا وطعما .
المتأكد أن هنشير النفيضة و ضيعاته على سبيل الذكر لا الحصر تقهقرت آلاف الأميال عما كانت عليه
بالأمس البعيد . فالهنشير كان شاهدا على
غزارة إنتاج الزيتون والحبوب وعرفت أباره عطاء مستمرا و أبت مائدته المائية أن
تنضب وثروة حيوانية قفزت إلى قرابة 30 ألف رأس غنم وتنوعت المنتوجات الفلاحية ووفر
كميات هائلة من الحليب ومشتقاته وكميات لا باس بها من الزيت الرفيع وبجودة عالية
ويد عاملة نشيطة و محترمة العدد و ناجعة المردود بل كان الهنشير رافدا من روافد
التنمية و مساهما في تقليص نسبة البطالة على اعتبار انه ظل يوفر فرص عمل موسمية
وسنويا خاصة للمرأة الريفية فضلا عن ارتفاع عدد العملة العرضيين و تحديدا في سنوات
الصابة و في مختلف الدوائر الإنتاجية
ضيعات مهدورة
حططنا الرّحال في إحدى الضيعات " أو ما يطلق عليها
بالتسمية القديمة "الفيرما " نسبة إلى الاستعمار متمركزة قريبا من مدينة
النفيضة بل من مركب ديوان الأراضي الدولية ...ضيعة جنة تحوّلت إلى جحيم ...هناك
كانت المعدات الفلاحية متناثرة أمامها ..وأغلقت أبوابها التي تحولت إلى أشبه ما
يكون بورشة لركون بعض المعدات الصالحة للاستعمال...أمامها أراض شاسعة خصبة قاحلة
بعثرت على تربتها بعض حبات الشعير المهدورة و التي لم تر النور إلا قليل منها...كانت
مثل هذه الضيعة درّة من درر الإشعاع الفلاحي في الجهة على اعتبار ما تمنحه من خضروات وبقول حتى أن بعض الشهادات التي استقيناها
من الذين كانوا شهود عيان على سنوات الخير والبركة أكدوا لنا إن أشجار المشمش والتفاح
والرمان والخوخ كانت تنتج بكميات وفيرة
وغلالها حلوة المذاق بهية المنظر كبيرة الحجم ..شهية..أما البقول والخضروات فحدث و
لاحرج على أنواعها و جودتها العالية ...هي ارض معطاءة بكل ما تحمله الكلمة من معنى
إلا أنهم أردوها أن تكون عقيمة...
في نفس المكان كانت
الآبار شاهدة على الطبقة المائية الزاخرة حتى أننا القينا نظرة على عمقها فتبين
لنا الماء و ليس ماء مالحا لا يصلح و إنما يشهد العديد من الأهالي انه ماء عذب حلو
المذاق ..كانت هذه الآبار مقصد الناس في الأيام الخوالي قبل ان تصلهم شبكات توزيع
المياه الصالحة للشراب ...أبار تناسوها فكانت مرتعا للأوساخ والحشرات و لوثوها بعد
أن تحولت إلى مصبات و ركن تؤمه الضفادع ...
كانت مثل هذه الضيعات وغيرها المتواجدة في عديد المدن على
غرار مدينة الكندار بمثابة باب الخير و النعيم على اعتبار ما وفرته من منتوجات ومواطن الشغل .
اطلالتنا على الضيعة عمقت الم العلة في النفوس و إصابتها بالمرض و اذكر
فيما اذكر أنها كانت مقصدا بعد الثورة لبعض العيون من الخبراء وهياكل المجتمع
المدني المختصة في التنمية الريفية الذين
زاروها و ذهلوا من فرط الإهمال بل وجزموا أنها تعد من الضيعات التي لو يحسن
المسؤولون التصرف فيها لكانت جنة موقوتة ولكن يد الفساد والعبث سبقتها فخربتها و
دمرتها ...
طمع وجشع
راجت في الأسابيع الأخيرة أنباء عن نوايا الإدارة بعد أن أصابت هنشير النفيضة بالمرض وأتلفت تجهيزاته
ومعداته وأهملت أراضيه وأثقلت إرثه عن خوصصته والتفويت فيه كحل لا بديل عنه
لمعالجة أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية!
ونسيت أن هنشير النفيضة مازال يشكل إلى يوم الناس هذا رمزا للسيادة في بلادنا ومأثرا من مآثر نضالات شعبنا من أجل الاستقلال والحرية و الانعتاق؟
ونسيت أن هنشير النفيضة مازال يشكل إلى يوم الناس هذا رمزا للسيادة في بلادنا ومأثرا من مآثر نضالات شعبنا من أجل الاستقلال والحرية و الانعتاق؟
لا أظنهم قد نسوا
ذلك ولا حاجة لنا بتذكيرهم بتاريخ هذا الهنشير فهم عارفون له وملمّون به وتعاليقهم
وتحاليلهم وأحاديثهم جاءت مؤكدة لذلك... وإلاّ، فكيف يجرؤون على تشريع خوصصة هذا
المعلم التاريخي؟...
و قد تغيب عن الإدارة المسؤولة فرضيات أن كلّ إصلاح ممكن في أي موقع للإنتاج
وأن معالجة وصيانة وتطوير وعصرنة ما ترهّل وتآكل من آلات ومعدات ممكن؟ وأن
الارتقاء بالكفاءات والإطارات والقدرات البشرية أيضا ممكن
فموقع «أرض
الهنشير» في مدينة النفيضة أصبح في هذه الأسابيع يسيل لعاب الطامعين في الثراء
والانتصاب على مواقع مفتوحة على مطار جديد ومنطقة صناعية ولعلّ هذا السبب هو
الغاية من تشريع خوصصة الهنشير ليس إلا...
فالتجارب السابقة برهنت على فشل الخوصصة في عدة
ضيعات فلاحية أخرى وحولت آلاف الهكتارات إلى عمارات شاهقة ومركبات تجارية كبيرة
فضلا على أن خوصصة بعض هذه الضيعات أربك التوازن الاقتصادي في السوق وقزّم دور
الدولة في التعديل والتشغيل. وثم لا بد من التذكير كما سيق عن بعض النقابات أن مجرّد التفكير في
خوصصة المركب الصناعي والفلاحي بالنفيضة هو اعتداء على حق من حقوق الشعب وليس
العمال فقط والتفكير بذلك أيضا يعد إلغاء لجزء من تاريخ البلاد.
نوم الديوان في العسل
من بين الترهات التي روجت لها بعض الأقلام الرخيصة أن "أراضي ديوان النفيضة مستغلة على الوجه الأكمل، وقد وقع تطوير زراعات الحبوب المروية والبعلية والحصول على أفضل النتائج من ناحية الجودة والمردوديّة على الصعيد الوطني فأصبح الديوان لأول مرة في تاريخه منتجا لبذور ممتازة وأكثر البذور بضيعة كندار والنفيضة..ذكرنا هذا الكلام الذي لا يتجاوز ألا أن يكون نفخا في البلور كتبيان والتأكيد بين ماهو مكتوب و ماهو على ارض الواقع فالبون شاسع والمسافة جد بعيدة ...بل ظلت كل الضيعات على حالتها المزرية و خاصة تلك التي اصطلحنا عليها " الفيرما " ثم أن المسؤولين في ديوان الأراضي الدولية أشبه ما يكونون بالموظفين الذين لا هم لهم سوى الشهرية فقط فلا مبادرات تذكر في هذا المجال و لا خطوات إصلاح انطلقت و لا حتى زيارات ميدانية مشفوعة باقتراحات و حلول ..هم يعشقون النوم في على أريكة مريحة تدور بهم يمنة و يسرة تاركين مثل هذه الضيعات وغيرها خلف ظهورهم ربما لتخلف في ايجاد الحل أو تخلف في العقول التي لا تهوى الإصلاح ...شانهم ينطبق على وزارة الفلاحة التي ظل وزيرها ماهرا في الألعاب السياسية فاشلا في إدارة الدواليب الفلاحية .
من مأساة إلى أخرى
إن فكر أهل القرار في خوصصة الأراضي أو بيعها أو إيجارها
فان ذلك المطمح لن يتحقق على اعتبار إرادة الشعب القوية في التصدي لمثل لهذه
الحلول الجائرة و التي تنم عن عقم في التفكير وغياب المبادرة في إصلاح ما أفسده
الدهر..فمأساة الديوان وأراضيه و ضيعاته اليوم نقلتنا إلى مأساة أخرى سابقة من تاريخ البلاد في عهد خير الدين
الذي قام بالتفريط في أملاكه للفرنسيين بالبيع، وخاصة هنشير النفيضة الذي يمسح 100
ألف هكتار للشركة المرسيلية للقرض، تصرّف خير الدين كملاك كبير كان يسعى لتأمين
مستقبل مريح لأسرته وحفظ أملاكه من جور الباي وبطانته. الغريب أنه عندما وقع توجيه
اللوم له على هذا التصرّف، خاصة من قبل حسين، كتب أنّ مصطفي بن إسماعيل، الذي كان
يعتبره رمز الفساد، يفعل الشيء نفسه ببيع أملاك أشسع للأوروبيين...فان كانت بالأمس
الإرادة الشعبية خانعة فإنها اليوم ستكون صامدة أمام التيار ...و لن تسمح باغتيال ارض خصبة تنبت الزعفران ؟؟؟





Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire