المبادرة الصحيحة... لتونس الجريحة
تعكس وجوه التونسيين وانطباعاتهم ما يعتمل في
المجتمع من قلق جماعي بسبب ما تشهده البلاد
من أوضاع صعبة على أكثر من واجهة في وقت
بات فيه الوعي الشعبي
مؤمنا حق الإيمان أن البلاد
قاب قوسين أو أدنى من السقوط على اعتبارات أن كل المؤشرات الاقتصادية جد سلبية ... ولئن رددت عديد الأصوات
أن إنقاذ تونس يستوجب خطة تنموية جديدة تحقق الديمقراطية الاجتماعية من
خلال التوزيع العادل لخيرات البلاد بعيدا عن الحيف والتهميش والحرمان. فإن بعض الآراء الأخرى جزمت بضرورة أن تتوفر الرغبة الصادقة والإرادة القوية والعزيمة الفولاذية لدى أصحاب الحلّ
والربط والقرار من الشرفاء الأحرار، فلا يمكن بناء دولة القانون والمؤسسات على
أرضية هشة وأسس آيلة للسقوط. فيما يؤكد الجميع أن تونس لاتزال تعيش وضعا صعبا وهشا يمكن أن يُعيدنا إلى
مربع الاحتقان والتأزم.
فالمعركة اليوم حتما كما
قال احدهم ليست بين المعارضة والسلطة، بل بين الذين يريدون
إنقاذ تونس - وهي في الهزيع الأخير من السقوط - وبين من يريدون تحويل البلاد إلى
صومال جديد. و أن المركب التونسي الذي تتلاطمه
الأمواج منذ أربع سنوات، يوشك على الغرق، وإن لم يَسعَ الجميع إلى إنقاذ المركب
فسنغرق جميعا، ولن يكون مُهمّا أن نكون في السلطة أو المعارضة . ففي خضم هذه القراءات
وهذه الآراء برز على سطح مشروع المصالحة الاقتصادية و المالية الذي طرحته رئاسة
الجمهورية و تبنته الحكومة و أحالته على مجلس نواب الشعب ...
مشروع أثار اللغط
و أسال الكثير من الحبر ...و مشروع
روج له انه وضع من اجل إنقاذ الفاسدين وتلميع صورتهم و إعادتهم إلى نفس المربع القديم
دون محاسبة... وهو في الواقع أشمل
بكثير من ذلك وأوسع بكثير من
القراءة الضيقة التي رأته بها العيون الحول بل هو مشروع
قد يكون بديلا ناجحا إذا ما
توفرت له
الإرادة السياسية وتوفرت فيه
الشروط الضرورية .
أهمية
المصالحة
إن موضوع المصالحة الوطنية في تونس موضوع
واسع وشامل ولا يمكن اختزاله في جانب معين أو في زاوية واحدة.. حادة أو حرجة
إنما نأخذ هذا الموضوع على اتساع رقعة مفهومه الأخلاقي والوطني النظري والعملي.
وان الكتابة من قبل الأقلام الوطنية الشريفة عن هذا الموضوع الضروري والجاد جدا -
لبلد مثل تونس في هذه الظروف يشد من عضد القائمين على مشروع المصالحة الوطنية
ويزيدهم وحدة وإصرارا على تحقيق أهدافه وغاياته والتي تعتبر القارب الامثل لوحدة تونس
الجريحة.
ومن وجهة نظر شخصية يعد مشروع المصالحة مشروع رأب الصدع الحاصل في وحدة
البلد ونسيجه الاجتماعي والاقتصادي وهذا الترميم مسؤولية الجميع وليس مسؤولية رئاسة
الجمهورية صاحبة المشروع و الحكومة التي
تبنته و قبلته وعلى جميع مكونات
المجتمع المشاركة الجادة في هذا المشروع ضمن آليات ناجعة وفعالة تدفع مشروع
المصالحة إلى الأمام وتنقله من حالة التنظير إلى الواقع العملي .
ما هو مشروع المصالحة ؟
لن
نعود لسرد تفاصيل
المشروع كاملا و ذكر
12 النقطة التي أتى عليها و لكن لتبسيط
المعلومة وتسهيلا على القارئ سنقتصر على تعريف المشروع
في هذه الخلاصة البسيطة و التي تم
اقتباسها من مقدمة المشروع
التي تفيد :" المصالحة في
المجال الاقتصادي والمالي إلى تدعيم العدالة الانتقالية في مجال الانتهاكات
المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام والعمل على انجاح مسارها، وذلك
أخذا بعين الاعتبار خصوصية تلك الانتهاكات من ناحية، و التداعيات السلبية لطول
آجال معالجتها على مناخ الاستثمار و ثقة المواطن في مؤسسات الدولة من ناحية أخرى،
من خلال وضع نظام فعال لمعالجة هذه الانتهاكات يفضـي إلى غلق الملفات المتعلقة بها
نهائيا وطيّ صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة
لانتقالية. ويكرّس مشـروع القانون، أسوة بعديد التجارب المقارنة، عدالة تصالحية في
مجال الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام مع الحفاظ على
كشف الحقيقة وجبر الضـرر المالي و يعتمد إجراءات خصوصية وآجال مختصرة تستجيب
لمتطلبات تهيئة مناخ ملائم للاستثمار وتعزيز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة. كما
أنه وفي السياق ذاته المتعلق بالمصالحة الهادفة إلى إنعاش الاقتصاد الوطني أقّر
المشـروع عفوا عن مخالفات تراتيب الصـرف بغرض استيعاب الموارد من العملة الصعبة
الموجودة خارج الدورة الاقتصادية وتوظيفها في تمويل الاقتصاد الوطني."
تمّ
استثناء الرشوة و الاستيلاء على الأموال العمومية من الانتفاع بهذه الأحكام.
وتبت اللجنة في مطالب الصلح في أجل لا يتجاوز ثلاثة (3) أشهر
قابل للتمديد مرة واحدة لنفس المدة. وتقدر الأموال المستولى عليها أو الفائدة
المتحصل عليها وتعرض على المعني بالأمر إبرام صلح في شأنها يتجسّم في دفع مبلغ
مالي يعادل قيمتها يضاف إليه نسبة محدّدة عن كل سنة من تاريخ حصول الاستفادة.
إقرار
عفو عن مخالفات تراتيب الصـرف : يهدف هذا الإجراء إلى تسوية الوضعيات العالقة
وتعبئة موارد من العملة الصعبة لفائدة الدولة وللانتفاع بهذا الإجراء يجب التصريح
بالمكاسب والمداخيل ودفع 5% من قيمتها ويمكن في المقابل إيداعها في حسابات خاصة
بالعملة أو بالدينار القابل للتحويل أو إحالتها بالدينار بسوق الصرف.وضمانا
لحقوق الغير ينصّ مشروع القانون على أنّ الإجراءات الواردة به لا تنال من حقوق
الغير"
ما يتطلبه المشروع
ما إن تم طرح
فكرة مشروع المصالحة حتى تعالت
الأصوات الناعقة وقوى الردة إلى رميه بالحجارة على غرار نعته
بمشروع طعن الثورة وإعادة تدوير الفساد ووصل الأمر بأحدهم إلى حد التهديد بإسقاطه شعبيا إن لم يقع سحبه بصفة سلمية من طرف رئيس
الجمهورية، من خلال المظاهرات والاحتجاجات فيما غرد صوت آخر أن المشروع تطغى
عليه الرغبة في تبييض الفساد، وتكريس الإفلات من العقاب، ولا يضمن عدم تكرار جرائم
الفساد، بل يشجعه...
أصوات تغرد
خارج السرب ولم تبد
نقدا بناء للمشروع وما تضمنه و ما تخلله
من هنات و كيف يمكن إصلاح
فصوله وفق مقاربة صلحية تنفع البلاد و العباد
بل هي أصوات ظلت تردد
المفردات ومرادفاتها في استعراض طفولي للأناشيد البائسة والمحفوظات حتى
تزيد جرعة إضافية من الاستحمار للتونسيين تنضاف إلى سلسلة الجرعات التي تناولها
الشعب سابقا .وهؤلاء هم الواهمون الذين يحلمون بعودة الحياة
إلى ما قبل الصنم وهذا يكاد يكون ضربا من الجنون والمستحيل, لان عجلة الحياة التونسية
تقدمت أشواطا والأوثان تهدمت والحقائق كشفت وما عليهم إلا الصحوة من الأوهام
ومواجهة أنفسهم وإقناعها قبل ملامسة الحقيقة الواقعية التي أخذت طريقها إلى مستقبل
الأجيال, ومن يريد الركوب في قارب النجاة الأمثل وهو المصالحة الوطنية فهو يريد لنفسه الكرامة والعافية . وفي وقت تتعالى فيه
مثل هذه الأصوات كان
لزاما على الأطراف المختلفة الأخرى أن تتلقى هذه المبادرة بروح وطنية متفهمة وعاقلة
وان تعدل من خطابها السياسي بما ينسجم مع إطار
الحكومة وذلك يعود لمصلحة الوطن
ومن اجل التقليل من الاحتقانات المتوترة في الشارع السياسي و الاقتصادي...وعلى
جميع الأطراف أن تبدي استعدادها لطي صفحة الماضي وان تقدم دراسات مجدية لإمكانية
تفادي الأخطاء في حياة المجتمع التونسي مستقبلا وان تستفيد كل القوى المتخاصمة من
فترة الركود والبرود الذي انتاب الكثير منها بعلاقاتها ببعضها البعض أو بعلاقتها
بمكونات الشعب وان تعيد قراءة المشهد الاقتصادي بعقلانية واضحة ورصينة وتبادر
بانتقاد نفسها قبل غيرها. وان تصلح ما أفسده الدهر في تلك العلاقة التي دفع
ضريبتها المواطن التونسي البسيط ثمنا غاليا .
ومن ايجابيات المصالحة هو تفعيل
الحراك في المجتمع ورفع الوعي لدى المواطن العادي وتقليل الاحتقان القائم وهذا يعود
بالنفع والاستقرار على الوضع العام للبلد
والانتعاش الاقتصادي ورصد حركة أموال الدولة من صادرات وواردات , والمصالحة هي
البديلة للمؤامرات والنزاعات غير المجدية للشعب والدولة , والقبول بها يعني فتح
أبواب المفاوضات في مجال توزيع السلطة في المناطق الرخوة والساخنة وتوزيع ثروات البلد المهشم وتوزيع موارده المالية بصورة ناجعة
وفعالة والاستفادة من طاقات البلد البشرية.
شروط نجاح المبادرة
ورغم النوايا الحسنة التي تبديها رئاسة
الجمهورية صاحبة المشروع , إلا أنها تحتاج إلى خطوات عملية وعلمية - إضافة إلى
القدرة والإرادة من قبل القائمين على المشروع والمتلقين له , وعلى رئاسة الجمهورية صاحبة
المشروع خلق آليات وورش عمل مرنة وبسيطة لخلق مناخ وطني نقي يعتمد لغة الحوار
والمكاشفة والمصارحة وتشخيص مفاصل الخلل التي تحول دون اندماج الآخرين في مسيرة
الدولة الجديدة والإيمان المطلق بالعملية السياسية القائمة.
بيد
أن من الشروط الأساسية لنجاح المبادرة على ارض الواقع
هو وضع المشروع في يد أمينة فضرورة ان يشرف
على اللجان المختصون النزهاء
و نظيفو اليد و الذين
يحظون بإجماع شعبي كبير و المعروفون بالاستقلالية و الطهر و العفة
و التعفف حتى لا يتلوث المشروع بفساد
الابتزاز و المساومة و حتى لا يتحول المشروع
إلى تجارة مربحة للعديد كما هو الشأن
في بعض الهيئات التي
تحسب نفسها دستورية في ظاهرها وفي حين
أن باطنها يفرز روائح
زكمت النفوس و الأنوف ...
الكلمة الحرة
إن تونس طالما تحسن النية وتقدمها بروح وطنية تجاه أبنائها
دون تمييز تستحق المساندة والدعم من أرواحنا قبل أقلامنا وفعلنا قبل كلماتنا و لا
نريد أن نكون أبواقا للسلطة والنظام
ولكننا نريد أن لا تتكرر غلطة الزمن الغابر مرة أخرى وان لا تنجب لنا
الأقدار دكتاتورا آخر بقناع آخر و نشاهد الدولة تهوى و نظل نتفرج دون أن نتحرك...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire