نظرا
للأحداث المتلاحقة التّي تشهدها بلادنا في الآونة الأخيرة، ورغم ما رافق
الاستحقاقات الانتخابيّة الفارطة من متابعة واهتمام لا نكاد نسمع اليوم صدى
للتقرير الذّي أعدّته دائرة المحاسبات مؤخّرا حول رقابة تمويل الحملات الاتنخابيّة
لسنة 2014 والذّي مثّل حسب بعض المصادر عنوانا جديدا للفشل الذريع الذي تتخبّط فيه
الدائرة منذ سنوات، فشل من حيث مضمون التقرير الذي لم يحرّك ساكنا لدى أي كان وفشل
من حيث الشكل خاصة وأنّ هذه التجربة الهجينة قد ماتت وهي جنين...
وللإشارة
فإنّ الإطار العامّ الذي تنزّلت فيه هذه المهمّة الفوريّة الجديدة المنوطة بعهدة
الدّائرة منذ سنة 2011 كان مردّه ضمان نزاهة وشفافية العمليّة الانتخابية والتي تعدّ
الأولويّة المطلقة لضمان الثقة فى العملية الانتخابيّة والاعتراف بنتائجها بعد
عقود من التزييف والتمويه.
ولكن
نظرا لازدياد دور منظّمات المجتمع المدنيّ والجمعيّات (خاصة جمعيّة عتيد) فى
رقابة ومتابعة العمليّة الانتخابيّة ورصد الخروقات والتجاوزات والاخلالات
والمخالفات التي تتم فيها وكشفها للرّأي العامّ، ونظرا لفضيحة تسريب التقرير
المنجز حول انتخابات أكتوبر 2011 من قبل أعضاء من دائرة المحاسبات أصبح من الضروري
مراجعة هذه المسألة في ضوء التجارب المقارنة من جهة والفشل الذريع الذي سقطت فيه
الدّائرة من جهة أخرى وذلك بهدف إحداث جهاز مؤهّل وشفاف يستطيع ضبط الخروقات التى
تتمّ على الإنفاق الانتخابي ولكن أيضا تكون له مصداقية واسعة . وفي هذا السّياق
يرجى من مجلس نواب الشعب إيلاء الأهميّة والعناية للعناصر التالية على سبيل الذكر
لا الحصر:
-
رقابة
التمويل او الإنفاق الانتخابي هو ما يعبر عنه لدى دائرة المحاسبات برقابة المال
السّياسي والمال السياسي هو حجر الزّاوية في العمليّة الديمقراطيّة
وخاصّة الانتخابات لأنّ تمويل الحملات الانتخابيّة هو جزء من التمويل السّياسي وهو
مفهوم واسع يشمل تمويل الأحزاب السّياسيّة. وقد سبق للدّائرة ان أكّدت فشلها في
رقابة تمويل الأحزاب السّياسية رغم انّ القانون المتعلّق بالأحزاب السّياسيّة لسنة
1989 يخوّل لها ذلك، وقضيّة عبد العزيز بن ضياء تشهد على ذلك خاصّة وانّه أقرّ
لقاضي التحقيق بانّ الدائرة هي التّي لم تكن تجرؤ على رقابة حزب التجمّع وليس حزب
التجمع هو الذي كان يرفض رقابتها ؟ فمن أين ستأتي بالجرأة اليوم رقابة تمويل حملات
انتخابات عشرات الأحزاب الحاكمة والمحكومة في السلطة والمعارضة في ظل رئيسها
الفاقد للكفاءة العلمية والمهنية والبعض من أعضائها عديمي الشرف والنزاهة من
الانتهازيين والمنافقين ؟
-
من
المعروف أنّ الخروقات التي تلاحظ في هذا
الشأن هي بروز ممارسات سلبيّة مثل إساءة
استخدام موارد الدّولة (المنحة) ، شراء الأصوات والذّمم والرّشاوي، التمويل غير المشروع للحملات الانتخابيّة ...الخ
وهذا من شأنه أن يؤثر في الشفافية
الانتخابية ويضرّ بالمساواة بين المترشحين. وهنا فإنّ الدّائرة بالنّظر لقلة
مواردها البشرية مقارنة بحجم الحسابات والوثائق المتعلّقة بعشرات الأحزاب ومئات
القائمات الانتخابية اظطرّت إلى التخلّي عن مهامّها الرّقابية الأصليّة والأساسيّة
والتي تهمّ أساسا رقابة التصرّف في المال العامّ وليس أدلّ على ذلك من صدور
التقرير المتعلّق بمشروع قانون ختم الميزانيّة بتأخير تجاوز الثلاث سنوات (آخر
تقرير يخصّ ميزانيّة 2012 وأحيلت منه نسخة لمجلس النوّاب ولا نعرف فيم سيصلح
استغلاله والمعطيات قد تقادمت بمرور الزّمن ؟) كما أنّ عدد المهامّ الرّقابيّة
المنجزة سنويّا لم يتطوّر إطلاقا رغم مضاعفة عدد الأعضاء بفضل الانتدابات والترقيات
العشوائيّة إثر الثورة (17 مهمّة رقابيّة سنويّا منذ سنة 2006 إلى 2014) هذا دون
أن ننسى تراكم مئات الملفّات بدائرة الزّجر الماليّ دون حسم منذ سنوات طويلة وهي
في حالة سبات عميق مقصود ودون مندوب حكومة لديها وشلل تام للرّقابة القضائيّة
لحسابات المحاسبين العموميّين وهذا كلّه ينطوي على تهديد أساسيّ لنظام ولمنظومة
الرّقابة ككلّ ؟
-
إنّ
وضع قواعد منظمة للتمويل السّياسيّ يؤدّى إلى ضمان المنافسة السّياسيّة العادلة ولكن تعتمد فاعليّة تطبيق قوانين التمويل
الانتخابي على طبيعة آليّة المراقبة وعلى مدى استقلاليّتها ولا يمكن لأحد أن ينكر
على الدّائرة الكمّ الهائل من التجاوزات المتعلقة بتسريب التقارير الرّقابيّة
واستفحال ظاهرة التجوال الدّوليّ بمعدل 14 سفرة سنويّا للعضو الواحد وخرق ميثاق
الشرف دون محاسبة وصدور قرارات عشوائيّة اعتباطية عن المجلس الأعلى للدّائرة في خرق
للشكليّات الجوهرية المتعلقة بالترقيات والتأديب والتستر على الفساد والمحاباة
والمحسوبية...الخ فضلا عن تراكم الشكايات والعرائض والتظلمات ضدّ رئيسها السّابق
والحاليّ السّيئ والأسوأ وهي كلّها عوامل
تنبئ بكون التقرير الانتخابيّ السّابق والحالي قد صدرا في بيئة غير منضبطة تحفّ بها
المخاطر والنقائص وقلّة الخبرة.
-
أثناء
الإعداد لاستصدار مرسوم سنة 2011 المنظم للانتخابات والذي ساهم في صياغته كلّ من
الشاذلي الصّرارفي (مقرر عامّ سابق بالدائرة ورئيس سابق للمنظمة التونسية للطفولة
التابعة لحزب للتجمع المنحلّ) وعبد اللطيف الخراط تمّ التسويق لها من قبلهما لحشر الدّائرة في اللّعبة
السّياسية عبر تكليفها برقابة تمويل
الحملات الانتخابية وذلك لثلاثة أسباب على الأقلّ أوّلهما تبييض عجز الدّائرة عن
مكافحة الفساد وعن رقابة الأحزاب الأساسيّة قبل الثورة والثاني
إيجاد فجوة تستطيع من خلالها التسلل للسّلط السّياسية والتمتّع بالمناعة ضدّ
الصّحافة وضدّ الرّأي العامّ والتحصّن بالمهام ّ السّياسيّة مقابل التخليّ عن أصل
المهامّ الرّقابيّة الأساسيّة والثالث البروز والرّياء لبعض مسيّري الدّائرة على
حسابها بهدف استغلال وتوظيف نتائج المهمّات والتقارير الرّقابية لابتزاز بعض
الأشخاص في مواقع القرار والسّلطة...
-
وللإعلام
تولّى الثنائي المذكور أعلاه بقيادة فائزة الكافي بمغالطة المشرفين على إعداد
المرسوم الخاصّ بالانتخابات سنة 2011 (والذي منه استقيت جميع النّصوص اللاحقة
المتعلقة بالانتخابات) حين ادّعوا جميعهم أن تكليف الدّائرة برقابة تمويل
الانتخابات هو "استجابة للاتفاقيّات والمعايير الدّولية واستئناس بالتجارب المقارنة
الدّولية" وهذا ينطوي على مغالطات كبرى...فقد نصّت المادّة 7 / 3 من اتفاقية
الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد على أنّه "تنظر كلّ دولة طرف أيضا فى اتخاذ
التدابير التشريعيّة والإداريّة المناسبة ، بما يتماشى مع أهداف هذه الاتفاقيّة
ووفقا للمبادئ الأساسيّة لقانونها الدّاخليّ، لتعزيز الشفافية فى تمويل الترشحات
لانتخاب شاغلي المناصب العموميّة وفى تمويل الأحزاب السّياسية". ويوجد في هذا
الإطار إجماع دوليّ على عدّة مبادئ وهي تطبيق سيادة القانون فى التشريعات الوطنيّة
وتوفّر الاستقلال والحياديّة والمهنيّة فى الجهة المشرفة على إجراء الانتخابات وفرض
عقوبات رادعة على المخالفين ومنع الحزب أو المرشّح المخالف لهذه القواعد من
استمرار المشاركة فى العمليّة الانتخابية ومراقبة الذمّة الماليّة للطبقة السّياسيّة
و عدم خضوع حسابات الأحزاب والمرشّحين للسريّة المصرفيّة وبالتالي لا يوجد أيّ
تنصيص او اتفاق حول جرجرة وإقحام أجهزة الرّقابة العموميّة وخاصّة الأجهزة العليا
كدائرة المحاسبات في عمليّة رقابة المال السّياسي بقدر ما يتمّ الحديث على إنشاء
هيئة مختصّة.
-
لا
يوجد في جميع أنحاء العالم جهاز رقابة عليا مكلّف برقابة الإنفاق العامّ في المادّة
الانتخابيّة ورغم ذلك تشدّق العديد من أعضاء دائرة المحاسبات بأنّه أمر جاري بع
العمل وأنّ الدّائرة تستأنس بشبيهاتها ولم نجد لهذه الشبيهات من أثر سوى في مخيّلتهم.
ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة يتدخل في رقابة الإنفاق الانتخابي كلّ من المحكمة
العليا الأمريكيّة ولجنة الانتخابات الفيدراليّة والكونجرس الأمريكى (الذّي له سلطة
حظر التبرّعات الماليّة غير المحدودة المعروفة بالمال الميسّر للحملات السّياسيّة) ولا يتدخل جهاز الرّقابة
العليا GAO في هذه العمليّة مطلقا.
-
في
لبنان أنشأ القانون اللّبناني هيئة خاصّة للإشراف على الإنفاق على الدّعاية فى
الانتخابات تسمّى ( هيئة الإشراف على الحملات الانتخابيّة ) وترتبط بوزير الدّاخلية
ويشرف عليها أمّا في الجزائر فيتولى مسألة الرّقابة على المال السّياسي المجلس الدّستوري
والقضاء العدليّ.
-
امّا
في فرنسا فلم ينصّ القانون الصّادر سنة 1988 والمتعلق “بالشفافيّة المالية في
الحياة السّياسيّة” على أيّة مراقبة لحسابات الحملات الانتخابيّة ثمّ جاء
قانون سنة 1990 وفرض مبدأ سقف النفقات الماليّة على كافّة الانتخابات وأجبر المرشّحين
على فتح حساب مصرفيّ للحملة الانتخابيّة وأنشأ في المقابل “الهيئة الوطنيّة الخاصّة
بحسابات الحملات وبالتمويل السّياسيّ CCFP ” التي من شأنها السّهر على تطبيق القانون وذلك بالرّغم من وجود
دائرة المحاسبات الفرنسيّة منذ سنة 1301 وبما أنّه لا تتمتّع هذه الهيئة الوطنيّة
الخاصّة بحسابات الحملات وبالتمويل السّياسي CCFP بسلطة التحقيق خوّل لها القانون أن تطلب مساعدة موظفي الدّولة
والخبراء أو أن تطلب من ضباط الشرطة القضائيّة فتح التحقيق في الغرض ولقاضي
الانتخابات عندئذ أن يصدر عقوبات انتخابيّة (إلغاء أو تعديل النتيجة)، ماليّة
(غرامة) أو جنائية (السجن). وليس على نوابنا إلا أن يتمعّنوا في العجائب والغرائب
والبدع التي تتضمنها المراسيم والقوانين الجاري بها العمل اليوم في هذا المجال
الحساس والتي تمنح الدّائرة كهيئة رقابيّة سلطات جزائيّة في بعض الأحيان فضلا عن
تعدّد الثغرات القانونيّة والتناقضات والضبابيّة وقد آن الأوان لمراجعة هذه النّصوص
وتسمية الأشياء بمسمياتها في انتظار تحرّك الحكومة لتعديل المشهد السّياسي
والقضائي والرّقابي ومزيد الحزم في معالجة الملفّات الحارقة باعتبار أينما كانت
السّلطة كانت المسؤوليّة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire