هو اليأس من الأحزاب السياسية , ومن أدائها (في
المجلس التأسيسي , وعلى سدّة الحكم , وعلى ناصية المعارضة) يهدّد بقتل مشروع
المواطن.
هي مشاعر الإحباط , وخيبة الأمل في نخب امتطت ظهور
أصوات النّاخبين , ولما أذعنت لها المطيّة وطاب لها الرّكوب , تخفّفت من أحلام
الشعب بالحرية والكرامة والرغيف مستعيضة عنها بمؤن المصالح الحزبية والمادية.
فهل يدفعنا اليأس والخيبة والإحباط إلى الاستغناء عن
نحت مواطَنَتنا أم ترانا قادرين على تنشئة وعي جديد يؤمن بأنّ التعبير الحر هو
الذي يحقق للمواطن موَاطَنته ؟
وعي يدرك أنّ الصوت الانتخابي هو شكل من بين أهمّ
أشكال هذا التعبير...
***
لن يكتمل مشروع المواطن الذي نريد , مالم نصر مدافعين
عن صوتنا الانتخابي ضد من يروم سرقته بالتحريف أو التزوير أو بالتّكميم .
ولن يكتمل مشروع المواطن الذي نريد , مالم نثق أن
الصوت ليس مجرّد تعبير عن الذات , بل هو منفذنا الوحيد الذي يمكّننا من التعبير عن
الأمّة والشعب والوطن.
لم يجانب الشاعر أدونيس الصواب حين قال :
"أنت
لا تستطيع أن تعبّر عن أمّتك , وعن شعبك , وعن وطنك , وعن قضاياك إن لم تعبّر
أوّلا وبحرية كاملة عن نفسك..."
***
الانتخابات التشريعية والرئاسية على الأبواب *
ومازال الإقبال على التسجيل ضعيفا بإقرار رئيس الهيئة العليا للانتخابات (شفيق
صرصار). ثلاثة ملايين تونسي تقريبا لم يشاركوا في التصويت في انتخابات المجلس
التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 , ثلاثة ملايين من الأصوات التي اختارت
الانتحار صمتا...
أما آن لهذه الأصوات أن تدرك أنّ الطبيعة تأبى الفراغ
؟ أما آن لأصحاب هذه الأصوات أن يبعثوها حيّة معبّرة عن ذواتهم , مشارِكة
(ولو بمقدار) في تقرير مصيرهم ومصير الوطن والشعب؟
مخطئ من يحسب أنّه يسجّل موقفا حين يهَب صناديق
الاقتراع الخواءَ. أيّ موقف هذا الذي يدَع فراغات هي من حقّه ليسمح بأن تخطّ فيها
أياد غير يده ما شاءت من الأسماء ؟ أيّ موقف هذا الذي يهَب صناديق الاقتراع
الخواءَ فتعمرها إرادة غير إرادته؟
***
إنّ عدم الاقتناع بالمشهد السياسي وبأداء النّخب وإن
كانت له مبرراته فإنّها لاتبرّر أن يختار المواطن (إن أراد أن يصير مواطنا حقا )
الانتحار صمتا , فهو إن اغتال صوته كان كمن ارتضى استبدال قانون الانتخاب المدني
بقانون الانتخاب الطبيعي.
والمقصود هنا بالانتخاب المدني هو ذاك الانتخاب الذي
يسعى فيه المواطن ما وسعه إلى الـتأثير والمشاركة عبر إعطاء صوته الانتخابي
إلى من يعتبره الأجدر لاصطفاء الأفضل .
أما المقصود بالانتخاب الطبيعي في سياقنا هذا فهو ذاك
الانتخاب الذي لا تتدخل فيه الإرادة الإنسانية أو لنقل إرادة المواطن حين يستقيل
من مواطنته فيتوارى وراء أبواب الصمت قابلا , راضيا بما ستقرّره له قوانين
الاصطفاء الطبيعي فتتدافع الأحزاب وتتصارع لينتصر الأقوى لا الأفضل . ومن بين
أدوات قوة الأحزاب (في هذه المرحلة الانتقالية التي تشبه السير على
حبل مبدؤه الاستبداد و منتهاه الديمقراطية الحقيقية وما بينهما
الهاوية من تحتنا , هاوية الفوضى أو إعادة إنتاج استبداد قد يكون أشرس لكن بوجوه
جديدة ...)
أقول من بين أدوات قوّة الأحزاب قد نجد مالا فاسدا و
ماكينات إعلامية خالصة الأجر ودعما إقليميا دوليا لمن يقبل بخدمة " أجندات
خارجية تستبيح الاستقلال الاقتصادي والسياسي للوطن" ...
إنّ
أصواتنا إن اختارت في الانتخابات أو خارج إطارها الانتحار صمتا سمحت لأولئك الذين
أغراهم الحكم وغرّهم السلطان بأن يتجاهلونا وأن يهوّنوا قدرتنا على التأثير
والتغيير وأن يشجعونا على اغتيال أصواتنا بأيدينا (في إطار تسويق دعوات مبطنة
أو معلنة أحيانا إلى عدم جدوى التسجيل في الانتخابات مثلا)...فكيف لنا أن نلومهم
بعد ذلك على بناء حسابات تراعي أن ليس للموتى أصوات , وليس لهم إرادة , وأن لهم
وحدهم مطلق الإرادة و كلّ القرار وقد يتجلّى مثل هذا التصور المبني على
ارتضاء الكثيرين منا الصمت من خلال بعض المؤشرات على وجود استعدادات لدى
زعامات بعض الأحزاب لتقاسم الحكم في المرحلة القادمة لا بناء على ثقتهم في أصوات
ناخبيهم فحسب وإنما ثقة في صمت الصامتين.
***
أيّ
معنى إذن وأي جدوى من الحراك (الموسوم بأنه حراك ثوري ) الذي عرفته البلاد منذ
السابع عشر من ديسمبر 2010 والذي كان التعبير الحر عن الذات إحدى غاياته إن
كنا سنلوذ بالصمت في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة ؟
إنّنا إن لذنا بالصمت متعللين بأي مبرر من المبررات
مهما كانت وجاهته جعلنا من ذلك الحراك مجرّد حادثة سير سياسي واجتماعي ستعود بعدها
حركة المرور إلى نظامها القديم.
أمّا عن ادّعاء البعض أن لا أحد من بين أطياف النخبة
السياسية يُعتَبر أهلا لصوته فهذا الادّعاء وإن أقررنا أنّه على قدر من الوجاهة
بناء على ما لمسناه من تخبّط هذه النخب و أخطائها وعجزها بعد انتخابات أكتوبر
2011 . إلاّ أننا نستطيع أن نبيّن بعض المعايير التي يمكن أن يهب
الناخب صوته اعتمادا عليها لمن يراه الأجدر أو الأقرب إلى تحقيق تطلعاته وإن
لم ينتمِ إليه حزبيا , فليس الانتماء أو الانتظام الحزبي شرطا من شروط المواطنة ,
لكن الانتخاب شرط أساسي من شروطها.
وأمّا عن بعض المعايير التي يمكن أن نعتمد في التصويت
فنذكر :
•معيار
الانتخاب على البرنامج (أي التصويت للبرنامج الذي نراه أكثر واقعية وقابلية
للإنجاز و الأقرب إلى تطلعاتنا)
فإن لم يتسنّ لنا ذلك إمّا لغياب البرامج جملة أو لغياب
المشاريع المقنِعة فلنا أن نعتمد:
•معيار
الانتخاب العِقابي ( أي معاقبة من بدا لنا أنه قد فشل في الحكم أو في المعارضة )
بحرمانه من صوتنا.
•و
معيار الانتخاب الأيديولوجي (أي انتخاب الحزب الذي نرى أنه ذو خلفيّة أيديولوجية
قريبة من أفكارنا , حاملة لهمومنا وقضايانا...)
وإن لم يكن لنا في هذه المعايير سبيل إلى التوفيق في
اختيار الأفضل فسيكون لنا في الصوت الحر سبيل للتعبير عن "مواطنتنا" ,
عن مواطنة تختار مصيرها بذاتها بمقدار , ويخشاها الحاكم بمقدار فيطلب ودّ أصواتها
بخدمتها ويُقِيمنّ الاعتبار لها ويعقِدَنّ حساباته على أنّها ستكون سببا من بين
أسباب وجوده وبقائه وظفره...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire