jeudi 19 juin 2014

حرائق النحلي واغتيال آية والبكالوريا المختومة بشهادة الزيف... الهزائم المقيمة بأنفسنا




لا يحقّ للفرسان أن يفرّوا من أرض المعركة لأنّهم إن فعلوا ضيّعوا الوطن وبدّدوا مستقبل أبناء هذه الأرض...وليست الأرض ملكا لمن عليها وحدهم بل هي ملك لمن هم مدفونون تحت أديمها أولئك الذين أسهموا يوما في زرعها وبنائها وتعميرها, وهي ملك لمن سيولدون يوما على ظهرها ليحاسِبونا عن هزائمنا وانتصاراتنا عن خياناتنا ووفائنا عن ذودنا عن منجزات الأمس وحمايتنا للمستقبل...


ومعارك تونس اليوم لا يجب أن تُختَزل  في المجال السياسيّ فحسب, بل إنّ معاركها تتعدد  وتتداخل ومن بين المعارك التي لا بدّ لكلّ مواطن أن يخوضها  المعركة ضد إحراق الشجر والمعركة ضد تدميرالانسان...
أفلم نعش خلال الأسابيع الفارطة على إيقاعات حرق الأشجار في منتزه النحلي واغتيال الإنسان  ألم نذرف الدّمع على آية فتاة الثامنة أساسي التي فتح قتلها بصائرنا على حقيقة موجعة وهي أنّ بعضنا لم يغادر بعد أزمنة الجاهلية بل لعلهم تجاوزوا في جهلهم مرتبة من كانوا يئدون بناتهم إلى مرتبة من يحرقوهنّ؟ ثم ألا يمكن أن نعدّ ما عاينّاه من تخاذل وزارة التربية وتردّدها وعدم حزمها في معالجة مسألة التسريبات في مناظرة البكالوريا وظاهرة الغش الإلكتروني شكلا من أشكال الاغتيال المعنوي للإنسان الذي قد يسعد بالحصول على شهادة ليكتشف بعد ذلك أنّها شهادة موات أثخن الطعن في مصداقيتها جوهرها الذي تحدده قيمتها المعرفية ولم يبق منها غير العَرَض والشكل الورقي المختوم بشهادة الزيف والزور ؟


أترانا مستعدّين لمواجهة التدمير المعرفي والثقافي والنفسي للإنسان بالإصرار على البناء ؟ أترانا مستعدين لمعركة إحراق الأرض بالغرس والزراعة ؟
أترانا نَثبُت لحماية تاريخ الوطن بأبعاده الزمانية الثلاثة(الماضي والحاضر والمستقبل) وحماية جغرافيته ؟ أترانا نصون الإنسان ليحيا حرّا كريما ؟ أم ترانا نفرّ من أرض المعركة ؟
بعيدا عن البحث في دوررجل السياسة والسلطة الذي طالما كان مفارقا لقيم الفروسية مهووسا بحماية منصبه قبل حماية الشجر والإنسان بادّعائه أمجادا وهمية وانتصارات زائفة في سياق خطابي دعائي يتأسس على الكذب والنفاق والرياء... سننظر في محددات انتصار المواطن و دوره في مجابهة الحرائق والتّدمير. وسنستحضر لمعالجة ذلك قراءة برقية لبعض ماكتب الروائي "عبد الرحمان منيف.


لقد تناول هذا الروائي  منذ عقود في مجمل رواياته, وفي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق " خاصة أزمةَ المواطن العربي ونتبين مما كتب أنّه يعتبِر سرّ الهزيمة وموطنها هو داخل الإنسان العربي المسكون بالعجز الذي يشلّ إرادته ويلغيها فيكتفي بالحياة السلبية وقد يستسلم للموت أو ينقاد إليه أو ينتظره في استكانة أو في معاناة "سيزيفية" (نسبة إلى سيزيف الذي يتدحرج مع صخرته كلما اقترب من قمة الجبل ) فتصير "الحياة مجرّد الحياة بطولة " على حد عبارة شخصية منصور(في رواية الأشجار واغتيال مرزوق) هكذا يسيطر سواد الموت على مسار الأحداث في هذه الرواية والموت ضمنها ذو مظاهر متعددة
*موت الأشجار بما هي معادل للحياة والوجود وبما هي رمز للتجذر في الأرض وللأمل في مستقبل مزهر مثمر غير أنّ أهل "الطيبة" يغتالون الأشجار ويستعيضون عنها بالقطن طمعا في ربح مادي أوفر غير مكترثين بإلغائهم لميراث الماضي ولأحلام المستقبل * موت الإنسان المقاوم الذي يجسده اغتيال شخصية مرزوق الذي أحب الأشجار واعتبر أنّ بقاءه من بقائها
*موت العقل يجلّيه الجنون الذي يبرز في إطلاق منصور النار على صورته في المرآة لما بلغه خبر اغتيال صديقه مرزوق فيُتَّهَم بالجنون ويُقتَاد إلى المصحّ...


إنّ تحديد موطن الهزيمة على أنها في داخل المواطن يجعلنا نعتبر أنّنا نحتاج إلى ثقافة مختلفة لنخوض معركتنا ضد الحرائق والتدمير...نحتاج ثقافة مقاوِمة تتشبث باستمرار الحياة فعلا لا قولا لمجابهة ثقافة الموت فلا نكتفي بإخماد "حرائق النحلي" ولا نكتفي بالدعوات إلى إعادة غرس أشجاره بل نمضي إلى فعل ذلك...


ولا نكتفي بتأثيم الأب الذي أحرق الطفلة "آية" بل نشرع في مقاومة ثقافة الوأد التي تسكننا وتزداد تجذّرا باعتبار الأنثى "عورة" وليس هذا الاعتبار الأخير حكرا على من يتبنّى فكرا رجعيا ماضويا بل نكاد نرى أثره لدى الكثيرين من أدعياء التحرر والحداثة الذين لا ينقطع خطابهم في الدوائر "الذكورية القضيبية" من اختزال المرأة الجميلة في عضوها الجنسي مستعيضين عن كل صفات الجمال الجسدي وحتى الفكري في عبارة تعرّيهم(قبل أن تعرّيها هي) إذ تكشف ترسّبات ثقافة مستبطَنة لم يخلصوا منها بعد ثقافة تعدّ المرأة  "مجرّد عورة" , كما تعرّيهم  تلك العبارة التي ينعتون بها المرأة التي تعاندهم أو تتفوّق عليهم أو تخالفهم أو يكرهون...(العبارة التي تعادل معنى العهر والدعارة والتي لا تكاد تخلو من ذكرها المجالس الذكورية بل وحتى المجالس النسوية الراضية عن وعي أو عن غير وعي بهيمنة "الثقافة القضيبية" التي تئد فكر المرأة وجمالها ليُبقِي منها الخطاب عضوا جنسيا ليس أكثر . والتي تستنقص  علمها وعملها بنعتها بالدّعارة...هكذا تفضحنا لغتنا اليومية بما هي حامل لمعاني وترسبات  ثقافية تكلّست في داخلنا وسيطرت علينا وآن لنا أن نقاومها عملا لا قولا كي لا تُحرَق "آيات" بعد الطفلة "آية" بفعل انهزامنا أمام "ثقافة الوأد" التي نكرّسها ونسوّق إليها وإن أنكرنا...


وأمّا عن تسريب امتحانات البكالوريا فبقطع النظر عن مسؤولية سلطة الإشراف التي لا نراها إلا مسؤولية آنية مباشرة تستدعي المساءلة والمحاسبة إلاّ أنها في عمقها  مسؤولية وعي اجتماعي اهترأت فيه جملة من القيم تحت وطأة واقع سادت فيه بطالة أصحاب الشهادات العليا وصارت النماذج العليا للترقي في السلم الاجتماعي نماذج ممن لا يملكون المعرفة وإنما يحظون بالدّهاء أو القدرة على التزلف والاحتيال ويحذقون السرقة ويتمتعون بشبكة   علاقات مع ذوي النفوذ المالي أو السياسي وتحولت الشهادة إلى مجرّد "أكسسوار" يتزين به أصحاب الجاه والمال والأمثلة على ذلك كثيرة خلال حكم ابن علي وصعود نجم زوجته و أصهاره وبطانته من الجهلة الذين قدَروا فيما قدَروا على ابتياع وتملّك ما شاؤوا من الشهادات العلمية (مثال ذلك حصول ليلى بن علي على شهادة عليا أو اجتياز عماد الطرابلسي لامتحان البكالوريا...) ولم تعوزنا نماذج الوصوليين والانتهازيين بعد "الثورة" ممن صاروا من ذوي الشأن وأصحاب القرار والمناصب وممن حظوا بالوظائف لا لكفاءتهم العلمية بل لولاءاتهم الحزبية أو لارتباطاتهم بأصحاب النفوذ الاقتصادي أو السياسي...هكذا سيطرت فكرة مفادها أنّ المعرفة رهان الأغبياء أمّا  "الخباثة" فقد تحولت إلى فضيلة لدى الذين يتقنون تحصيل الشهادات إن رغبوا فيها بال"كيت" ووسائل الاتصال الحديثة بدل " الاجتهاد والتحصيل العلمي" وكان طبيعيا أن يفقد الأستاذ والمعلم قداسته وهيبته إن حرص على حراسة المعرفة من سرّاقها فيعتدي عليه بعض التلاميذ ويوجّه إليه بعض الأولياء سهام انتقادهم وينتعله بعض الساسة ليشقوا به دروب دعايتهم الانتخابية أو سبل البقاء الآمن على كراسيّهم الوزارية الوثيرة...


إنّ أحداث حرق الشجر وتدمير الإنسان التي شهدنا بعضها خلال الأسبوع الفارط والأسبوع الجاري تجعلنا ننبّه إلى أنّ أرضنا منذورة إلى أن تصير هشيما تأتي عليه النار وإلى أنّ الإنسان في هذا الوطن منذور للموت والجنون مالم يعمل على التخلّص من الهزيمة التي تسكنه , ومالم تطابق أفعاله أقواله ومالم يقاوم حاملي ألوية الخراب ممن يحرقون ويدمّرون وممن تواطأ معهم أو تخاذل أو صمت...وحاملو ألوية الخراب يغزون النفوس المهزومة قبل أن يغزوا الوطن ويغتالوا المواطن...لذلك أجدنا محتاجين إلى "ثورة وعي" تقاوم "هزائمنا النفسية" لنعيش "حياة كالحياة"...ولنكفّ على اعتبار "الحياة مجرّد الحياة بطولة..."

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire