خلال تغطيتي لاعتصام الصمود الذي يقوم به مجموعة من المساجين السياسيين السابقين،حاولت ان أتحاور مع اكبر عدد منهم.
ما لفت انتباهي وأنا استمع إليهم هو تلك السنين الطويلة التي عاشها هؤلاء في السجون وبعد ذلك في المراقبة الإدارية او الإقامة الجبرية وبعد الثورة في الفقر والجوع.خلال كل ذلك كنت أتساءل : ماذا يبقى من العمر حين تقضي نصفه في السجون.
مختار واحد من هؤلاء.لقد قضى في السجن 14 سنة نعم 14 سنة
العريان المبزع : حين قلعوا أظافري قلت يا ليتني كنت ترابا
العريان المبزع شهر مختار رجل في الخمسينات من عمره قضى نحو ثلث عمره في السجون.
لكنك وأنت تتحدث إليه تأتيك كلمته محايدة كأنه يتحدث عن شخص آخر لا يعنيه. كأن 14 سنة من السجن لم تفعل فيه شيئا أحقا لم تفعل فيه شيئا أم هو فقط كبرياء الرجال وعلو الهمة وعزيمة مثل الصوان.
ربما هو صلب لكن 14 سنة تترك في النفس لوعة وفي أعماق الإنسان ما يشبه المتاهة.لذلك يتحدث البعض عن اختصاص اسمه علم نفس السجون.
مختار والسياسة
منذ السبعينات كان لمختار اهتمامات سياسية وقراءات سياسية رغم حداثة سنه.فقد كان يكره الجبن والأنانية الفردانية والخنوع.كان يشعر انه ليس من حق فرد بمفرده او حزب بمفرده ان يحوزا كل شيء ويترك الشعب على الهامش كان يردد : الشعب صاحب السلطة والشعب يعين من يحكمونه.وكانت أحلامه تكبر حين رأى الشاه يسقط والثورة الإيرانية تنتصر فقد رأى فيها انتصار المستضعفين.
مجزرة حمام الشط
كانت الغارة الإسرائيلية على حمام الشط مثل الطعنة الغادرة بالنسبة إلى مختار تساءل كيف يتمكن الصهاينة من ضرب الفلسطنيين وهم بعيدون عنا آلاف الكيلومترات وكيف تعجز هذه السلطة الغاشمة في التصدي لذلك وهي التي أبدعت في قمع الشيوعيين والنقابيين والقوميين والإسلاميين.
يومها أدرك مختار ان هذه السلطة التي تعجز عن حماية شعبها يجب ان ترحل وتترك مكانها لأولي الحزم والعزم
مختار والنهضة والسياسة
يقول مختار ان بن علي قد خدع الجميع بما في ذلك النهضة وانه بعد سنتين من انقلاب السابع من نوفمبر بدا ان ذلك الجنرال يعد العدة لاستعباد شعب بأكمله وكان مختار ناشطا في حركة النهضة يخرج في المسيرات ويشارك في المظاهرات حتى انكشف في سنة 1992 وقبض عليه .
مختار والتعذيب
لما يحدثك مختار عن التعذيب فان نبرات صوته تتغير.هو لم يحدثني عن موقعه داخل النهضة في تلك الفترة لكني متأكد انه كان ممسكا بخيوط كثيرة وان علاقات شتى كانت تتجمع بين يديه ويظهر ان المحققين كانوا شبه واثقين من ذلك لذلك بادره كبيرهم :
- مختار نحن نعلم انك تعلم أشياء كثيرة لقد اقر بذلك رفاقك الذين قبضنا عليهم.فكلهم يذكرون اسمك هذه ورقة اكتب عليها كل شيء ونحن لن نمسك بسوء.
وكان مختار ينكر معرفته بأي شيء فقد كان يعلم انه ان اقر بشيء فسوف يطالبونه بمعلومات.فباب الجحيم يفتح بمجرد كلمة واحدة.
- مختار لا تتعنت معنا أننا نعلم من تكون ونعلم أهميتك في التنظيم فلماذا أنت عنيد
لكن مختار ظل صامدا.وكان عذاب لا حدود له في انتظاره.
التعذيب
جربوا على مختار أساليب شتى من التعذيب تبدأ بالضرب بالعصا وتمر بالفلقة والبانو وتنتهي بقلع الأظافر.
يقول مختار : في البداية هجموا علي لارهابي وضعضعتي اذ جعلوا يضربونني بالعصي على كل جسدي، وهم يصيحون ويسبون ويشتمون:
- يا ابن ال... يا ابن ال... يا ابن ال... هل تظن انك ستتحدانا في مقرنا.
وبعد ان يهرسوا جسدي ويدموه يلقونني أرضا ويعلقونني على طريقة الدجاجة المصلية وحين تدمى ساقاي يمرون بي إلى طريقة البانو حيث تنحبس أنفاسي وأتجرع البول وأكاد أموت.
وحين أعيتهم الحيلة معي مروا إلى قلع أظافري ان قلع الأظافر أوجع من كل ما سبق فحين تنطلق الكلاليب في القلع تحس ان كل آلام العالم قد تجمعت في الظفر وان روحك تكاد تنقلع من جسدك تعوي في داخلك كل أوجاع العالم وتتمنى لو انك كنت ترابا.يقول مختار وقد بان الألم على وجهه : إلى الآن مازلت أتساءل كيف ينجب مثل هذا الشعب الطيب أمثال أولئك المجرمين.
الحكم ب 14 سنة
قضى مختار في سجون تونس 14 سنة بين 1992 و 2006 . خلال تلك الفترة طافوا به بين سجون تونس وبنزرت ومسعدين وبنزرت مرة وأخرى وبرج العامري.
وحين غادر السجن فرضوا عليه إقامة جبرية إذ يبدو أنهم كانوا يرون فيه عنصرا خطيرا.
لكن مختار الذي ما زادته السجون إلا صلابة رفض الإقامة الجبرية قال لهم : أموت ولا اقبل بالإقامة الجبرية.
وهكذا كان مختار يتنقل بحرية كما يشاء متحديا قرارات البوليس والحرس والمخابرات.
ولأنه حرم من كل عمل حكومي ولأنه منع من العمل في القطاع الخاص فقد فتح مختار عطرية صغيرة أمام مدرسة يعيش منها حتى لا يموت من الجوع.
مختار الذي لقيته في اعتصام الصمود بالقصبة قال لي تصور أننا نحن من رفض بن علي وزمن بن علي نحن من ضحى بكل شيء نحن من أهدرنا شبابنا نجد أنفسنا اليوم نتظاهر من اجل حق هو من أهم أولويات الثورة الم تقم الثورة من اجل الجياع.الم تقم من اجل من همشوا.الم تقم من اجل من ظلموا وقهروا وإذن لماذا يتم تجاهلنا اليوم.
نحن وقفنا في وجه بورقيبة حتى سقط.ووقفنا في وجه بن علي حتى هرب ونحن سنقف هنا من اجل حقنا حتى نأخذه وأضاف في لهجة متحدية : تذكر كلامي لن نغادر هذا المكان حتى يعاد إلينا اعتبارنا.
حميد عبايدية
Hamid.abaidia@yahoo.com
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire