إن
الخطاب اللغوي لحركة سياسية ما إنما يعبر عن عقيدتها السياسية في أفكارها
وتصوراتها, هو خطاب مشحون بتراكمات الماضي وبرغبة جامحة في الوصول إلى السلطة
والتحكم وتحقيق الغلبة, وخطاب حركة النهضة رسالة لغوية أيضا تمتلئ بالدلالات
الدينية و السياسية والطموحات الذاتية أيضا, إنه خطاب سلطة يرجع صدى خطاب المعارضة
القديمة زمن الاستبداد, فإذا هي سلطة جديدة متحولة تطوع الخطاب السياسي في الحجاج
وأساليب الإقناع وصناعة السيطرة... والتقرير ينشد إلى أحداث ووقائع في تاريخ تونس
المعاصر بدأ مع نهاية السبعينات وتأسيس الحركة الإسلامية وينتهي بعد انتخابات 23
من أكتوبر لسنة 2011, هو
خطاب محمول بتجربة تاريخية تونسية, ويرتبط بالعامل الديني الأصولي, إنه يسير
الهوينى إلى الحداثة وهو يلتفت إلى جذوره الدينية وموروثه الفقهي مثقلا
بأحداث وزعامات وتراكمات سياسية, ويأخذه حنين لمعاودة تجربة النبوة وتأسيس الدولة الإسلامية
الأولى في المدينة ومنبهرا بتاريخ إسلامي يفيض على العالم.
وهو
كذلك خطاب ينبنى على قيمة سياسية أخلاقية هي التأسيس للمدينة الفاضلة التي تتحقق
فيها السعادة الإنسانية على قاعدة العدل نقيضا للظلم, فهل بإمكان خطاب الإسلام
السياسي في تونس أن يحول مقولاته المثالية الحالمة إلى مشروع سياسي قابل للتطبيق
في الواقع التونسي المعيش ؟ قد تكون المسافة الفاصلة بين الدولة المثال وبين واقع الدولة
عيية عن الأفهام.
انعقد المؤتمر
التاسع لحركة النهضة التونسية موضوع بحثنا أيام 15 14 13 12 من شهر جويلية
لسنة 2012, وقد اختزل التقرير الأدبي كامل المرحلة التاريخية للحركة الإسلامية.
وفي مستوى الشكل جاء التقرير في 18 صفحة وافتتح بتوطئة أولى تلتها مقدمة... وقد
قسم هذا التقرير إلى فقرات خصصت كل فقرة برقم يميزها عن الأخرى من 1 إلى 20, بمعنى أن المنهج الذي توخاه كاتب التقرير هو
تنظيم الأفكار وترتيبها وفق منطق رياضي إلى جانب التزامه بالتسلسل الزمني للتاريخ
بما يوحي بالنظام والدقة في ظاهره, ومن الغرابة أن النقطة السابعة في التقرير لم
تكن موجودة أصلا إذ انتقل المتلفظ من النقطة السادسة إلى النقطة الثامنة فإذا هي
19 نقطة هذا إضافة إلى أخطاء الرقن وبعض اللحن اللغوي, فكأن التقرير قد كتب على
عجل وأسقط عن صاحبه عناء المراجعة على الرغم من أهميته , ثم جاءت الخاتمة لإجمال
ما دون في ما تقدم .
وقد جاء
التقرير محدثا عن مرحلة من تاريخ الحركة تراوحت بين النشاط السري وبين الظهور
العلني مرورا بمرحلة السجن ووصولا إلى الحكم, فقدم تفصيلا تاريخيا للنشأة
ومؤتمراتها السرية أو تلك التي انعقدت في المهجر لسنوات2007 2001 1995 1988 1986
1984 1981 1979
ونحن نرى أن نص
الخطاب السياسي في التقرير الأدبي متعدد الأصوات لا يتوفر على متلفظ وحيد, نقصد أن
التقرير نص جماعي شارك فيه متلفظون مختلفون بدليل تعدد الأساليب وأفانين الكتابة,
إذ هو ينقل إلينا صوت الزعيم وصوت المريد التابع, فجاءت بعض الفقرات صياغة للأستاذ
"راشد الغنوشي" وبعض الفقرات الأخرى خليطا من أساليب مختلفة غاب عنها
التنسيق, فظهرت قطيعة بائنة بين
الأفكار والفقرات مما أفقد الخطاب قوة الترابط والتماسك. إنه نص مبتور في مستوى
أفكاره قد خلا من حجية النص السياسي القائم على القدرة على الإقناع والإبهار. وقد
اختصر التقرير حقبة زمنية تمتد على عشرين عاما أراد أن يجملها في بضع صفحات ...فهل
يجوز اختزال مرحلة تاريخية ممتلئة بالأحداث والأفكار والتحولات والمشاعر الإنسانية
في خطاب لغوي مختصر؟ إنه سيلغي قطعا كثيرا من الوقائع والتفاصيل والجزئيات لأنه في
المنتهى ليس نصا تاريخيا يبحث عن الحقيقة التاريخية, إنما يقدم وجهة نظر أحد
الأطراف السياسية داخل حركة النهضة من تلك الأحداث, هي قراءة الفئة المسيطرة صاحبة
القرار داخل الحزب.
وقد
صدر التقرير بآية قرآنية وختم كذلك بآية قرآنية بما يوحي أنه نص سياسي مشدود إلى
نص ديني مقدس, ويأتي
الدعاء مذكرا بأساليب الخطابة الدينية القديمة وهو فن في الكتابة والترسل يقوم على
افتتاح المدونة أو الرسالة باستدعاء للعامل الديني, هو دعاء يعود إلى الله والى
فكرة الهداية والتوجيه الرباني, ويجدد اعتراف الإنسان بألوهية الخالق, ويهدي
الجماعة المؤمنة سواء السبيل وينصرها سياسيا.
وهذا الدعاء
يذكر أيضا بفكرة الجهاد إلا أنه "جهاد الكلمة" بمعناه الضيق "في حضرة السلطان الجائر" استنادا إلى ما ورد في المقدمة, كانت مقولة
اسلامية تدفع المريدين والمناضلين الى الجهاد ومواجهة الحاكم المستبد الخارج عن
شرع الله غير أنها مواجهة سلمية مقيدة بتوظيف اللغة واللسان ضمن إطار النصح
والمجاهرة بالحق خارج دائرة العنف... وفي الدعاء كذلك تذكير بالآخرة ويوم الحساب
وهي من ركائز الإيمان في أصول الدين. فكأن معاودة فكرة ما بعد الموت أو ما بعد العالم
الإنساني فيه تأصيل للسياسي داخل مجال العقيدة الدينية وفيه خضوع لله الواحد الأحد
في التصور الإسلامي. وتؤكد الآيات القرآنية في الافتتاحية أصولية حركة النهضة
وارتباطها الوثيق بالمقدس الديني, هي حركة تنتمي إلى تاريخها وتتمسك بموروثها وتحمل في جرابها
السياسي حسب تصورها مشروعا حضاريا ينتهي إلى الاعتراف بعبودية الإنسان وبربوبية
الله في ملكوته سعيا لتحقيق مفهوم الدولة الإسلامية وفق القيم القرآنية التي ستملأ
الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.
ومن
جهة أخرى فإن الخطاب السياسي الذي يستلهم من الموروث الديني ومن نصوص القران إنما
يعلن انتسابه للحقيقة الدينية في خطابه السياسي, فيتحول الخطاب البشري في
التقرير الأدبي إلى خطاب يستمد شرعيته من التاريخ ومن الله , هو ارتباط وثيق بين
الدين والسياسة لدى الأحزاب الإسلامية المعاصرة بما فيها حركة النهضة, فإذا بنص
التقرير قد تحول إلى خطاب لغوي يفارق الخطاب السياسي السائد لدى بقية الأحزاب الليبرالية
أو القومية أو اليسارية, وهو يضمر في المستويات العميقة من وعيه السياسي اعتقادا
راسخا بأنه يمتلك حقيقة الهداية الإلهية وحقيقة العالم وسر الغيب, ويضحي
الخضوع إلى الخطاب السياسي من جنس الخضوع إلى الخطاب الديني المقدس
"وذاك ما يفسر الانضباط الحزبي الصارم لأعضاء حركة النهضة داخل المجلس
التأسيسي" . ثم إن هذا الحزب المدني المنخرط في العملية الديمقراطية متمسك
بمرجعيته الدينية وهو يرى أن أحوال الناس لا تصلح إلا بصلاح أخلاقهم وإيمانهم
وتمسكهم بدينهم, وبالتالي ينتفي الفصل بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني فيتماهى
الخطاب البشري مع الخطاب الإلهي.
بعد
المقدمة الدينية ينتقل التقرير إلى توطئة سياسية تصوغ تعريفا عاما لحزب حركة
النهضة في تونس فيعتبر " أن تفويضا ديمقراطيا في
الانتخابات أهل الحركة لقيادة الشأن السياسي العام من أجل تحقيق أحلام المصلحين
وتحقيق مقاصد الإسلام ". وحين نمعن النظر في
الخطاب "النهضوي" فإننا نقف عند تقرير جمع بين التاريخ الحديث لحقبة
الصدام والاستئصال , وبين خطاب سياسي يسعى إلى تقليب مسائل الحكم بعد مرحلة
التمكين والنصر الإلهي حسب اعتقادهم, وما يقتضيه ذلك من صياغة لنظرة كلية في
السياسة والأخلاق والاقتصاد والاجتماع الإنساني.
ويبدو من خلال
الخطاب السياسي للحركة أنه قد تبدل من خطاب احتجاجي ومعارض ضد الحاكم المستبد, إلى
خطاب ينظر من زاوية ولي الأمر وفق منطق الدولة. هو يريد تحقيق مقاصد الإسلام
الكبرى وتندرج تلك المقاصد ضمن مفهوم الكليات بتعبير الشاطبي في "كتاب
الموافقات", إنه يروم تحقيق مقاصد الشرع التي تتأسس على قاعدة مفادها أن
العقل به نفسر الكلام الإلهي وهو لهذه الجهة خادم للنص القرآني فإذا ارتبط جلب
المصالح باستنباط عقلي فإنه يقدم على النص من أجل درء المفاسد.
"والحركة
تروم تحقيق أحلام المصلحين" بمعنى أن النهضة قد اصطفت ضمن فكر إسلامي
إصلاحي بعد أن كانت في الثمانينات تنحاز إلى فكر إسلامي ثوري ومكافح قريب
النهج من تشدد التجربة الإيرانية, فاستلهمت من فكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
وأحمد بن أبي الضياف وخير الدين باشا التونسي وبيرم الخامس وبعض من شيوخ
الزيتونة... أولئك الذين دعوا إلى
النهوض بالأمة الإسلامية والاقتباس عن الغرب في ما لا يتعارض مع الشرع من أجل
الخروج من حالة الانحطاط. بيد أن الخطاب السياسي لحركة النهضة قد تخلى عن مفهوم
"الأمة" بمعناه الشمولي أو دحرجه إلى مرتبة ثانوية فلم يذكره أصلا في نص
التقرير, لقد انتقل إلى الدولة بمفهومها القطري الضيق بخصوصيات تونسية, إنها
الدولة الوطنية التي تسبق في الأهمية فكرة الأمة الإسلامية.
وقد ورد في
التقرير "أن
الحركة اليوم تراعي الواقع المحلي والدولي مع الالتزام بالوسطية" ومثل هذه الجملة تنبهنا إلى تنازلات كبرى
في مستوى عقيدة الإسلام السياسي إنه يتخلى باسم مراعاة الواقع عن مبادئه التاريخية
في مناكفة الاستعمار, والسيطرة
الاقتصادية والثقافية التي يفرضها الغرب, وفي معارضة الامبريالية العالمية التي
تقودها الولايات المتحدة الأمريكية, وهو يتخلى عن معاداته للغرب الوريث الشرعي
للمسيحية الاستعمارية المحاربة, فلم يعد خطابا إيديولوجيا مكافحا ومجاهدا, لقد
أصبح خطابا إصلاحيا طيعا ومرنا. وأضحى عدو الأمس حليف اللحظة الراهنة. والنهضة
اليوم لا تجد حرجا في إعلان تحالفها مع القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية
لقد صارت تشبه إلى حد كبير الإسلام على الشاكلة الخليجية إسلام مسالم ومتعاون يحفظ
المصالح الأجنبية فلا ترى الحركة ضيرا في التعاون مع الغرب ومع الولايات المتحدة الأمريكية
تخصيصا بما يتناقض تماما مع عقيدتها السياسية التقليدية.
وتشير فكرة
الوسطية إلى الإسلام المعتدل وتنبئ بوجود إسلام متشدد راديكالي ترفضه الحركة
في مقابل إسلام ليبرالي منفتح على الآخر حد الذوبان . إن هذا الخطاب السياسي
في لغة التقرير فيه إضمار لتحولات عميقة في إيديولوجيا الحركة, لقد تغيرت من حركة
إسلامية إخوانية مناضلة, لتصبح حزبا سياسيا حاكما يؤمن بحضور الإسلام في أشكال
التدين وفي الأخلاق وفي المعاملات الاجتماعية, إلا أنه يتخلى عن فكرة الصدام مع الآخر
الغربي في مسألة الخضوع للقوى الدولية وحفظ المصالح الوطنية.
ثم إن التقرير
قد وقف عند حدث تاريخي هو انتخابات سنة 1989التي اعتبرها سببا مباشرا للصراع
ضد بن علي. فحين يئست الحركة من إمكانية الوصول إلى الحكم بطريقة ديمقراطية ونزيهة
في ظل نظام أحادي استبدادي قررت التوسل بخطة "فرض الحريات وتحريك
الشارع والمقاومة المدنية"... كان ذلك إثر حرب الخليج
الأولى سنة1991 وهي الخطة الكارثية التي زجت بمناضلي الحركة الإسلامية في
محرقة دامية قوضت أركان حركة النهضة وتسببت في ألام وجراحات لآلاف التونسيين. وقد
اعترف التقرير بوقوع أخطاء في استقراء الموقف وفي إدارة الصراع السياسي وتقدير
موازين القوى الدولية والإقليمية بعد حرب الخليج. وقد جاء في نص الاعتذار "أن قيادة الحركة مؤسسات
وأفراد لتستغفر المولى سبحانه على ما قد يكون حصل من أخطاء وهي لا تجد غضاضة في
الاعتذار لكل من لحقه ضر بسبب خطا في التقدير أو تقصير في الإدارة أو ارتباك في الأداء".
كان الاعتراف
بالخطأ غائما وغامضا لأنه لم يحدد نوع الأخطاء ومن ارتكبها, والاعتراف جاء مشروطا
بالإمكان "ما
قد يكون حصل" بمعنى
أن الاعتذار يقدم إن ثبت وقوع خطأ ما, إنه اعتراف هلامي لا يشفي غليل شباب غرر بهم
في حرب طاحنة دمرت أحلاما وأيقونات وألقت بجيل كامل في السجون والمنافي, ثم إن
القول بأن "العبرة
في السياسة بالنتائج" لم يكن إلا تبريرا خاطئا لا يعترف بالقيم الإنسانية
والأخلاقية ويؤمن ببراغماتية ميكافيلية لا تصدر عادة في نصوص الإسلاميين,
ولعل المثال الذي تقدمه إسرائيل في الحرص على حماية أرواح جنودها في المعارك أو في
الأسر لهو أفضل أنموذج يجب أن يحتذى لدى الطبقة السياسية العربية, فما بالك بحركة سياسية
دعوية إسلامية تؤمن بالأخلاق وبالقيم. ثم إن النتائج السياسية في مقولة "العبرة بالنتائج" إنما حصلت بفعل تراكمات عديدة كانت تجربة الحركة
الإسلامية أحد أطرافها, وكانت سياسات النظام السابق في احتكار أقلية للثروات وتفقير
الشعب وتجهيله ثقافيا والظلم والقهر والاستبداد السياسي هي الأسباب المباشرة التي
أفضت إلى سقوط دولة "بن علي".
ثم
إن الاعتذار والاستغفار عن تلك الأخطاء لا يعوض آلام وجراحات المعذبين والمفقرين
والمعدمين إلى اليوم لأن "خطة
الإنعاش" التي
أشار إليها التقرير "ومحاولة رعاية الجسم المشرد" التي انطلقت بعد سنة
1992 كانت فاشلة, لأن آلاف المساجين لم يتلقوا إلى اليوم أية إغاثة أو معونة من
تنظيم الحركة. لقد كان الحصار الأمني شديدا خاصة في العشرية الأولى من حكم
"بن علي" غير أن التضييق الأمني لا يبرر فشل خطة إغاثة المساجين
وعائلاتهم وهذه الخيبة ترتسم اليوم في وجوه عدد كبير من الإسلاميين خاصة بعد
الانتخابات لأن حزبهم بدا عاجزا عن تسويق خطة واضحة المعالم تقنع الرأي العام بأن
جبر الأضرار وتعويض ضحايا القمع ليس منة من أحد وأنه واجب الدولة وواجب المجتمع
تجاههم, ولقد أغفل التقرير تماما هذه القضية الشائكة نقصد مسألة التعويضات
وبالتالي اعتبرها قضية ثانوية.
سنة 1993صدر كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" الذي اعتبره التقرير "أهم وثيقة سياسية وفكرية في تراث الحركة"... وفي هذا الخطاب نزوع إلى التمجيد وإعلاء شأن الذات
لم يستطع التخلص من ثنائية الزعيم والقطيع, فالشيخ "راشد الغنوشي"
لا يزال على رأس الحركة منذ أربعين عاما , فلم نر تطبيقا حقيقيا لسنة التداول في
القيادة بل إن الزعيم قد صنع ملاءة من القداسة والعلوية على سائر مناضلي الحركة
وهو يريد أن يستمر في الزعامة, فـأصبح إصدار "كتاب الحريات العامة في الدولة الإسلامية"
حدثا هاما يؤرخ به باعتباره وثيقة ممتازة في موروث الحركة, ومثل هذه الملاحظة ترسخ
فكرة تمجيد الذات وتضخيم صورة الزعيم في وقت تحطمت فيه الحركة وقصم ظهرها وسجن
مريدوها وتخطفتهم النائرة.
وتتعالى الذات
السياسية في نص التقرير فيعتبر صدور "الكتاب الأبيض البيان الشامل سابقة في الأحزاب العربية المعاصرة" وهو كتاب يبحث في أسباب سقوط حركة النهضة في
صراعها ضد دولة "بن علي" ويرجعها
أولا إلى ما توخاه النظام من أسلوب قمعي استئصالي, و ثانيا لتحالف القوى المعارضة
مع سلطة "بن علي", وثالثا لسوء تقدير القيادات للوضع العام داخل البلاد.
ومثل هذا الكتاب يصنفه صاحب التقرير باعتباره سبقا في التجربة السياسية العربية
المعاصرة وفي ذلك امتداد لرؤية ضيقة ترى العالم في أنا, وأنني أنا العالم, هي الذات حين تعتد بذاتها فلا
ترى أخطاءها وتعتقد أنها الأفضل.
لقد أجمل
التقرير انجازات سنوات المهجر في التعريف بسلمية الحركة بمعنى أنها حزب يرفض العنف
الثوري أو العنف الجهادي الذي تتوخاه القاعدة مثلا أو السلفية الجهادية, إنها حركة
سياسية مدنية ذات مرجعية إسلامية. وقد نجحت قيادة التنظيم في الخارج في تشكيل صورة
ايجابية لحركة النهضة في المحافل الدولية, بمعنى أنها قد قدمت تنازلات عميقة تتعلق
بوجهة نظر فكرية في تصور العلاقات مع الآخر الغربي أو الأمريكي, فأعادت صناعة صورة
العدو الاستعماري باعتباره صديقا ممكنا بالمعنى الليبرالي, وأصبح إسلامها خليجيا
بمعنى ألا يتعارض الدين مع لعبة المصالح المالية والاقتصادية في العلاقات الدولية
فصرنا نسمع عجبا, حين تقدم الإدارة الأمريكية ضمانات كي تحصل الحكومة التونسية ذات
الخلفية الإسلامية على قروض مالية أو حين تساعدها في المجال العسكري. فإذا ما نجح
شيخ الحركة في تشكيل علاقات متينة مع منظمات وجماعات إسلامية ذات تأثير عالمي فإنه
في المقابل قد أسس لمراجعات عميقة في تمثل صورة الآخر الاستعماري القديم لا ندري
مدى قبولها أو تأثيرها في الوعي الجمعي للإسلاميين.
ثم
إن التقرير قد أشار إلى المسألة المالية التي تبقى غامضة لأن جمع أرصدة تتراوح 20 و40 ألف دينار والمقصود
هنا تصحيحا للخطأ مليون
دينار, يكشف ثغرة بمبلغ يقدر ب 20مليون
دينار في نص التقرير غير مقبولة في حزب بعراقة حركة
النهضة, لأن الأمور قد جرت على الالتزام بمبدأ الدقة في كشف الحسابات المالية,
خاصة ما تعلق منها بالهبات والعطايا على مدار عشرين عاما التزاما بالنزاهة
والشفافية, فإن كان الحال يقتضي التكتم عن التفاصيل المالية لأسباب معينة فقد كان
حريا الإشارة إلى الموانع الموضوعية إن وجدت, أما إذا كان الأمر راجعا إلى
وجود تقرير مالي مرافق للتقرير الأدبي فتلك مسألة جائزة.
ولعل من ركائز هذا
الخطاب أنه أبان عن رؤية الحركة لكليات القيم الإنسانية خاصة منها قيمة الحرية
وفكرة المساواة في الحقوق والواجبات وفي قيمة المواطنة وما تحمله الحركة في
مشروعها من إيمان بإنسانية الإنسان وما تبشر به عامة التونسيين من حرص على التأسيس
لدولة ديمقراطية تقطع نهائيا مع الاستبداد والقهر,.... هل بني هذا التصور على
قناعة فكرية متأصلة للفقيه الإسلامي المعاصر أم هي مقتضيات الواقع وضرورات التاريخ
التي تحدد علاقة ما هو ديني بما هو اجتماعي وثقافي وسياسي ؟
لقد انتبه
التقرير إلى قيمة الحرية في بناء الدولة المدنية الحديثة, هي حرية الفرد والحريات
الجماعية والحرية السياسية والحرية الدينية, هذه القيمة الإنسانية الرفيعة هي التي
قامت عليها فكرة الديمقراطية في القبول بتعدد الآراء والاعتراف بحق الاختلاف وحرية
المعتقد. وكأن حركة النهضة تعيد تأصيل قيمة الحرية باعتبارها أحد تعبيرات الحداثة الإنسانية
داخل النسيج الفكري للإسلام السياسي المعاصر...قد نرى أن الحرية في الإسلام مشروطة
بقيود فقهية صارمة ضبطتها مؤسسة الاجتهاد في حين أن الحرية في الرؤية الديمقراطية
تكاد تكون مطلقة عن كل قيد.
ثم إن التقرير
قد بقي منقوصا لجهة أنه لم يقدم تفاصيل برنامج الإغاثة الذي أدارته الحركة لأولئك
المساجين من الإسلاميين وعائلاتهم, هل استطاع ذلك الجهد الاغاثي أن ينجد منكوبي
المحاكمات ؟ لقد أدت محاولة تدمير النهضة واستئصالها لاحقا إلى تشكيل نواة أولى
للإسلاميين من المساجين, بما تنقله تجربة السجن من الآم وجراحات وكذلك ما تنتجه من
معان وأفكار ومع الوقت تحولوا الى كتلة متضامنة ترى أنها تمتلك شرعية النضال ضد
الاستبداد. في المقابل فإن الإسلاميين الذين هجروا قسرا ونجوا بأنفسهم قد
تحولوا إلى كتلة متضامنة كذلك تجمع بينهم محنة الاغتراب في أوروبا ومكافحة النظام
من الخارج, فأصبحوا أكثر قبولا بفكرة التعايش مع الآخر الغربي المسيحي بماضيه
الاستعماري وتطبعوا بأفكار وقيم مستحدثة.
إن
حزبا بحجم حركة النهضة في رأينا مطالب بتقديم خطاب سياسي مختلف عن بقية
الأحزاب يقوم على نقد الذات وكشف الهنات ومواضع الخلل ولا يجب أن يكون خطابه
تبريريا تلفيقيا يتحرج من أخطائه. إنه الحزب الأوسع شعبية ذاك الذي أوكل إليه
الناخبون مهمة تسيير الدولة وإنجاح أول تجربة ديمقراطية فإذا ما انتكست أو
نجحت فإن الحركة تتحمل القدر الأكبر من المسؤولية التاريخية في ذلك.
في
الختام فإن التقرير الأدبي للمؤتمر التاسع لحركة النهضة قد أجمل مرحلة من تاريخ
الحزب ذي المرجعية الإسلامية هي جزء من التاريخ المعاصر لتونس الحديثة , وهو نص
سياسي بامتياز قد قلب النظر في أهم المشاغل والقضايا الفكرية والسياسية والتاريخية
مثلما أنه قد استوثق إلى رسالة دينية عقائدية فقدم قراءته الذاتية للأحداث
والتغيرات ... غير أنه تقرير لم يكتب بإتقان وحرص, كان خطابا مهتزا أحيانا غير
مقنع أحيانا أخرى, ولم يرتق إلى مستوى حدث تاريخي لحركة ممنوعة منذ أربعين عاما,
هي بصدد إنجاز أول مؤتمر علني لها وهي في سدة الحكم. حركة النهضة ولا شك تمتلئ
بالكفاءات والقدرات الخلاقة التي لا يعجزها إقناع الآخر بوجاهة وعقلانية
خطابها, وقدرته على التحول من
منطق الحزب إلى منطق الدولة دون أن تتنازل عن ثوابتها, إنها قادرة على إنتاج خطاب
أكثر تماسكا وأوثق حجية يمسك بمقتضيات الواقع التونسي ويراعي موازين القوى الدولية.
بقلم الأستاذ المعز الحاج منصور
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire