تعيش
المجتمعات طبق قوانين محددة تحكمها وتلتزم بمحتواها وتحافظ الدولة كجهاز ادارة
وردع على احترام تلك القوانين بما لها من اجهزة وبما يوجد في تلك الدولة من سلطات
، إلا ان خرق تلك القوانين ظاهرة اجتماعية طبيعية لاختلاف رؤى الافراد وتناقض
مصالحهم ورغبة كل منهم في الاستئثار بأكثر ما يمكن من المنافع والمصالح ،ولئن كان المبدأ
العام يقتضي ان تناقض المصالح والرغبة في تحسين الظروف الحياتية لا يبرر الاعتداء
على مصالح الاخرين والتعدي على القانون فان الاستثناء موجود اذ ان بعض الافراد
يستغلون ما لهم من مهارات فكرية او علاقات اجتماعية او غيرها سعيا الى تحقيق
مصالحهم الخاصة على حساب الغير دون مراعاة لأية ضوابط ومن هنا يبدأ ما يمكن ان
نطلق عليه مصطلح الفساد .
وقد عاش الشعب في تونس مرحلة امتدت خاصة منذ سنة 1987 الى غاية الاطاحة برئيس النظام السابق يوم 14/1/2011 اثر ثورة شعبية تضافرت عديد الاسباب لاندلاعها ولعل اهمها يعود الى ما ظهر من استغلال عديد الاطراف لمؤسسات الدولة وعلاقاتها الشخصية لتحقيق مصالح على حساب المجموعة الوطنية ويجدر التذكير ان الرئيس المخلوع حاول قبل الاطاحة به ان يمدد في اجل نظامه من خلال خطاب اعلن فيه انه سيحاسب كل من تعمد مغالطته او تورط في فساد او غيره وقد وقع تبني هذا التمشي من طرف السلطة السياسية التي تولت ادارة البلاد بعد 14/1/2011 بإحداث لجنة وطنية لتقضي الحقائق حول الرشوة والفساد بمقتضى المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011 والمنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد13 بتاريخ غرة مارس 2011 والمتمم بالأمر عدد 235 لسنة 2011 المؤرخ في 19 فيفري 2011 المنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 14 بتاريخ 4 مارس 2011 والذي بمقتضاه تمت تسمية رئيس اللجنة المذكورة .
وانطلاقا من المرسوم والأمر المتمم له يمكن القول ان الفكرة المحدثة للجنة المذكورة امتداد للنظام السابق الذي اعلن عنها وليست وليدة الثورة او المرحلة الحالية التي اتسمت بفوضى قانونية ضرورة ان المرسوم عدد 7 جاء في اطار تفويض مجلسي النواب والمستشارين لبعض سلطاتهم لرئيس الجمهورية المؤقت ولمدة محدودة ، على ان ما يتخذه رئيس الجمهورية من مراسيم يجب ان يعرض على مجلس النواب او المجلسين للمصادقة عليها وذلك عند انقضاء المدة المذكورة حسب مقتضيات الفصل28 من الدستور اي ان المجلس الذي فوض هو الذي يتولى مراقبة تلك المراسيم وكما يمكن له المصادقة عليها يمكنه رفضها وهو ما يطرح اشكالا حول اعمال تلك اللجنة ومدى صلوحيتها او فسادها خصوصا وان تلك الاعمال ترتبط اساسا بأهم اهداف الثورة وهو مقاومة الفساد ومحاسبة المتورطين فيه ذلك ان رفض مجلس النواب المصادقة على المرسوم يوقف العمل به ثم ومن جهة اخرى يثور السؤال حول القرارات المتخذة تنفيذا لذلك المرسوم وعملا به ذلك ان المرسوم عمل قانوني يتأرجح بين الامر والقانون وفي صورة عدم المصادقة عليه من مجلس النواب يصبح امرا ذا صبغة ترتيبية وبذلك ينتهي الامر الى تنظيم مجالات يوجب الدستور التونسي ان يقع تنظيمها بقانون لا بمجرد امر
ومن جهة اخرى فقد باشرت اللجنة المذكورة عملها قبل صدور المرسوم المنظم لها اي قبل صدور الاطار القانوني المحدد لشكلها وتركيبتها ومجال عملها وأساسه القانوني اذ قامت بقبول الشكاوى والعرائض واستمعت حسب تصريحات رئيسها الى عديد الاشخاص واتخذت قرارات في وجاهة بعض الملفات من عدمه وقد حاولت السلطة السياسية تدارك الفوضى التي شابت اعمال تلك اللجنة بالتنصيص صلب المرسوم عدد 7 المنشور بالرائد الرسمي يوم غرة مارس 2011 على ان هذا المرسوم يجرى العمل به ابتداء من 18 فيفري 2011 بما يعني العمل بصفة رجعية بذلك المرسوم وهو ما يذكر بإسناد لقب للأطفال المهملين او مجهولي النسب ضرورة وان المبدأ القانوني السليم يفترض ان العمل بالقانون يكون بعد مضي خمسة ايام من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية في حين ان اللجنة المذكور شرعت في اعمالها بمجرد الاعلان عن وجودها بخطاب سياسي كما ان اللجوء الى التنصيص على رجعية العمل بالرسوم المحدث لها لا يمكن ان يصحح ما قامت به لتعلق جميع اعمالها بمسائل تهم الحريات العامة وحقوق الانسان الاساسية ولاستيلاء اللجنة المذكورة على عمل من اعمال قاضي التحقيق وهو تفتيش محلات السكنى خصوصا وانه متعهد بقضية تحقيقية تتعلق بالمسكن الواقع تفتيشه ولم يجد السيد رئيس اللجنة من رد على النقد الوجه للجنته في خصوص هذا الامر إلا القول بان اللجنة ذات وجود قانوني وأنها تمارس عملها في اطاره والحال ان الاطار القانوني لم يولد بعد ، ثم والأغرب من ذلك ان يرفض من يدعي مقاومة الفساد تنفيذ حكم قاض بإيقاف اعمال لجنته وان يستمر في تقبل الشكاوى والحال ان الاحكام انما تصدر لتنفذ وانه في غير تلك الصورة عدنا الى ما قبل الثورة والى علوية بعض الاشخاص على القانون والأحكام وكان حريا بالسيد رئيس اللجنة وهو رجل القانون الاكفأ ان يمتثل للحكم وان يعطي المثال على تقديره لعلوية القانون على الجميع وان يساهم من موقعه في ارجاع الثقة العامة في القضاء لان درجة الفساد التي وصلت اليها البلاد انما يعود سببها الرئيسي الى تهميش القضاء وحرمانه من اداء دوره في حماية الحريات والأفراد والممتلكات.
ان الحديث عن الوجود القانوني للجنة في تاريخ الحكم لا معنى له وعليه كان القيام ضد اعضائها في طريقه لان الاطار القانوني المنظم لها لم يكن موجودا فهي وان نص المرسوم في فصله الاول على انها هيئة عمومية مستقلة بما يعني تمتعها بالشخصية القانونية والاستقلالية تجاه السلطة التنفيذية فان الدعوى المرفوعة ضد اعضائها بأسمائهم ماضية من حيث الشكل ضرورة وان العلم بالوجود القانوني للجنة غير ممكن إلا من تاريخ نشر المرسوم المحدث لها وحتى الحديث عن اصدار المرسوم اي تاريخ نشأته لا يعتد به ولا يواجه به الغير لأنه في حكم المعدوم بالنسبة للكافة حتى تاريخ النشر ومضي المدة المعينة لإجراء العمل به.
كما ان البحث
عن اساس لوجود اللجنة ومباشرتها لأعمالها في اطار اليات العدالة الانتقالية لا
يستقيم واقعا وقانونا ضرورة انه فضلا على سطو اللجنة على اعمال القضاء فان منظومة
الفساد لا يمكن القضاء عليها خارج اطار عمل السلطة القضائية اي ان التصدي لظاهرة
الفساد بمقررات ادارية او غيرها من الاشكال او اللجان انما هو محاولة لتأبيد الوضع
وحتى وان اخذنا بعين الاعتبار حسن نية اعضاء اللجنة ورغبتهم الجامحة في تقديم عمل
وطني فان تمسكهم بمواصلة اعمالهم رغم صدور حكم قاض بإيقافها يطرح اكثر من سؤال ،
ولعل السبب الرئيسي لذلك الاصرار هو تلك الحصانة التي مكنهم بها المرسوم والتي
تؤكد انه لا يمكن تتبعهم فيما يتعلق بممارسة مهامهم.
ان حسن النية لا يكفي لإقرار اعمال اللجنة والاطمئنان الى سلامة قراراتها ذلك انها منغلقة على نفسها بحكم المرسوم المحدث لها وبحكم طريقة تشكيل اعضائها فلئن كانت اللجنة تتألف من هيئتين عامة وفنية فان طريقة تشكيلهما تثير الريبة قبل السؤال اذ لم يقع نشر كيفية تسمية الاعضاء وأي جهة تم التشاور معها ومن هي المنظمات المعنية ومعايير التسمية فضلا على انه ومع اهمية المواضيع المطروحة امام اللجنة واتصالها بما يهم المصلحة العليا للبلاد فان مداولاتها سرية بما يعني عدم اطلاع العموم عليها والحال ان الثورة كانت تهدف الى القطع مع مثل هذه الممارسات التي تحول دون اجراء مراقبة على تلك الاعمال ومثيلتها والتي من شانها التكتم على بعض مظاهر الرشوة والفساد ضرورة وان الفصل 3 من المرسوم ينص على ان تتعهد اللجنة الفنية بالكشف عن الحقائق عن حالات الفساد والرشوة التي قام بها او استفاد منها اي شخص مادي و/او معنوي عمومي او خاص او مجموعة اشخاص بفعل موقعه في الدولة او الادارة بفعل قرابته او مصاهرته او اي علاقة اخرى مهما كانت طبيعتها مع مسؤول او مجموعة مسؤولين في الدولة خلال الفترة الممتدة من 7 نوفمبر 1987 الى 14 جانفي 2011 وفي هذا الاطار تتعهد الهيئة الفنية بتجميع المعلومات والوثائق والشهادات التي من شانها ان تمكن من تقصي الحقائق بخصوص ارتكاب جرائم فساد مالي او اداري او جرائم ارشاء وارتشاء من قبل شخص مادي او معنوي عمومي او خاص او اي تنظيم او جمعية او هيئة مهما كانت طبيعتها والتثبت في المعلومات والوثائق المجمعة ومدى صحتها قبل احالتها على السلط القضائية المختصة قصد تتبع مرتكبي هذه الجرائم ،ومن هنا تتضح خطورة عمل اللجنة فهي تتثبت في صحة المعلومات والوثائق قبل احالتها للقضاء بما يعني اعطاءها سلطة تقديرية في تحديد ما هو فاسد من عدمه وما هو رشوة او دون ذلك ، وإذا اضيف لهذه السلطة مبدأ سرية مداولة اعضاء اللجنة ينتهي الامر الى ان اللجنة ودون اية رقابة على اعمالها تملك لوحدها حق المساءلة وحتى لو جارينا المرسوم في كون اللجنة تساعد في جمع المعلومات لتشعب واقع القضايا واستفحال ظاهرة الفساد كان يجب ان يكون دورها تقريريا فقط اي ان تكتفي بتلقي المعلومات دون ابداء رأيها فيها .
لقد حاول المرسوم المحدث للجنة ايجاد ضمانات لمصداقية عملها من خلال الالتزامات التي فرضها على الاعضاء ضمن الفصول 10 و 11 و12 اذ يتعين على كل عضو اعلام رئيسها بالمهام التي باشرها قبل سنتين من تسميته ولا يمكنه المشاركة في مداولات تتعلق بشخص مادي او معنوي تكون له مصلحة شخصية او قرابة عائلية او مصاهرة او اي نوع من الالتزامات والعقود كما ينسحب المنع عل العضو اذا تعلقت المداولة بشخص تكون له مصلحة او قرابة خلال الفترة اللاحقة لإحالة الملف على السلطة القضائية ، إلا ان المرسوم صدر بعد مدة من مباشرة اللجنة لأعمالها فهل تنبهت اللجنة لهذه الالتزامات وتنبأت بها ام ان الوضعية تمت تسويتها لاحقا ، ثم ان هذه الموانع لا جدوى منها اذ لم يبين المرسوم الاثار القانونية والجزاء الذي يمكن انزاله في صورة تقديم تصريح مخالف للحقيقة او مشاركة العضو في مداولة تخص شخصا تربطه به علاقة فضلا على عدم تحديد المرسوم لدرجة القرابة او المصاهرة التي تؤدي الى المنع ولعل الاغرب هو ما جاء بالفقرة الثانية من الفصل 11 اذ يرتقي المنع خلال الفترة اللاحقة لإحالة الملف على السلطة القضائية بما يعني تعهد اللجنة بجزء من الملف او كله ولو بعد تعهد القضاء ولا ندري سببا لذلك او مجاله وما هي الصفة التي تبقى للجنة بعد احالة الملف ، اللهم إلا اذا كانت ستراقب اعمال القضاء .
ان التأسيس لقضاء مستقل ناجز فاعل ، والعمل على ارجاع روح المواطنة الصالحة الملتزمة بسيادة القانون تستوجب تدعيم مؤسسات الدولة والاعتراف بسلطة القانون على الجميع دون استثناء ، كما تستوجب الفصل بين السلطات وإلا تنقض سلطة على اخرى او ان تتدخل في اعمالها إلا ان المرسوم المحدث للجنة اوجد جهة قضائية ثانية باختصاصات هي في الاصل من جوهر عمل القضاء ذلك ان قيام اللجنة بأعمال التفتيش والحجز بالمحلات المهنية والخاصة وسماع كل شخص يرى رئيس اللجنة فائدة في حضوره هي في الاصل اعمال تعود الى قاضي التحقيق دون سواه اذ اقتضى الفصل 59 من مجلة الاجراء ات الجزائية ان لحاكم التحقيق ان يسمع كل من يرى فائدة في شهادته كما اقتضى الفصل 93 ان التفتيش يجري في جميع الاماكن التي قد توجد بها اشياء يساعد اكتشافها على اظهار الحقيقة وأضاف الفصل 94 ان تفتيش محلات السكنى من خصائص حاكم التحقيق دون سواه واقتضى الفصل 97 من نفس المجلة ان على حاكم التحقيق ان يبحث عن الاوراق والأشياء التي من شانها الاعانة على كشف الحقيقة وان يحجزها وتحرر قائمة في المحجوز بمحضر ذي الشبهة او من وجد عنده ذلك المحجوز ان امكن ويحرر تقرير في الغرض .....
ان هذه الاعمال التي جاءت بها مجلة الاجراءات الجزائية والتي هي الاطار القانوني لأعمال التتبع والتحقيق والمحاكمة تكاد تكون مستنسخة في المرسوم إلا انها وبخلاف ما نصت عليه المجلة كانت فاقدة لأهم ركائز البحث المتعلقة بشكلية الاعمال ومطابقتها للقانون خصوصا وان الامر يمس النظام العام وان كل اجراء مخالف يكون معرضا للتصريح ببطلانه بل وعلى المحكمة ان تثيره من تلقاء نفسها ولو لأول مرة امام التعقيب ،
ان الجانب الشكلي في الاجراءات الجزائية وفي اعمال التبع بصفة عامة من الامور التي تهم القواعد الاجرائية الاساسية ومما يهم مصلحة المتهم الشرعية وعليه كان احترام الجانب الشكلي من اهم ما يسعى الباحث عن الحقيقة على احترامه وخصوصا عند البحث عن الادلة وتعتبر اعمال الحجز والتفتيش من اهم الاعمال الى جانب شهادة الشهود وخصوصا هذه الاخيرة لارتباطها بإثبات وقائع مادية او نفيها وتأكيد نسبتها للمشتكى به او ابعادها عنه مع احترام مبدأ المواجهة إلا ان النظر في المرسوم وخصوصا فصله الرابع في فقرته الرابعة يجيز للهيئة الفنية ان تستمع الى كل شخص يرى رئيس اللجنة فائدة في حضوره ويبدو من الاول انه نص عام اي ان هذا الشخص ذا الفائدة في حضوره وكما يمكن ان يكون خبيرا لتستنير اللجنة برأيه يمكن ان يكون شاهدا غير ان المرسوم لم يحدد من يتولى سماعه فهل هي اللجنة كلها ام احد افرادها وهل يقع تدوين شهادته سواء كانت سلبا ام ايجابا ثم والاهم ما هي القيمة القانونية لشهادته فإذا كانت مجلة الاجراءات الجزائية تحيط سماع الشهود بعديد الضمانات ومن اولها حلف الشاهد ان يقول الحق دون سواه مع تحذيره مغبة الشهادة زورا ، فان المرسوم لم يبين طريقة سماع الشاهد او القيمة القانونية لما سوف يصرح به وما هي الاثار القانونية التي تترتب في صورة تغييره للحقيقة فضلا على ان لا وسيلة او سلطة قانونية للجنة لإحضار الشاهد الذي يرى رئيس اللجنة فائدة في حضوره ورفض الحضور.
ان الجانب القانوني في المرسوم ولئن انتقى بعض فصوله من مجلة الاجراءات الجزائية في اساليب البحث والتحري عن الحقيقة يبدو في بعض الاحيان مبهما ويعطي اللجنة سلطات ما كان لها ان تتمتع بها لولا الجانب السياسي الذي يقوده ويبدو الاستعجال في اصداره لاحتواء النقد الموجه لها ومع الامل في ان تقطع الثورة التونسية مع كل الممارسات التي ادت الى استفحال ظاهرة الفساد يبقى القضاء المستقل دوما رافعا لراية العدل وحافظا للحريات ديدنه في ذلك ان العدل اساس العمران .
بقلم عزالدين العبيدي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire