vendredi 30 décembre 2011

الدين والتاريخ والسياسة في مقالات الإسلام السياسي




يمثل الإسلام السياسي في لحظتنا الراهنة ظاهرة تاريخية تستحق التمحيص والدرس  : هل هو فكر إسلامي أحادي متجانس عقائديا وثقافيا وإيديولوجيا، أم هل إنه إسلام متعدد ومختلف أم هو "اسلاماوات "  فيه أفكار وتصورات وتأويلات . . . أيجوز لنا أن نصنف أدبيات  الفكر السياسي في الإسلام المعاصر  باعتبارها كلا واحدا متماسكا بين جبهة الإنقاذ في الجزائر والإخوان المسلمين في مصر  أو سوريا  أو حركة حماس في فلسطين أو حزب الله في لبنان  أو حركة النهضة في تونس أو حركة العدل والإحسان في المغرب ، هذا وإذا أخذنا في الاعتبار الحركات الإسلامية في المجال الإسلامي الواسع في تركيا وإيران والباكستان واندونيسيا وماليزيا  فان المسألة تبدو معقدة فعلا .
نحن إزاء فسيفساء عجيبة وثرية لها منطلقات فكرية متشابهة داخل حضارة واحدة ، تجلت مع حدث هام هو النص القرآني ، وتخضع لعوامل تاريخية في الثقافة والاقتصاد والاجتماع الإنساني وكل الموروث القديم ، ونلحظها في مخزون العادات والتقاليد وخصوصيات الثقافات المحلية للجماعات المؤمنة التي تدين بالإسلام، إننا نقصد تلك الأنسجة العميقة الثاوية في أعماق الضمير الجمعي والتي تشدنا إلى ما يوحدنا ، إلى تلك الكليات و الأفكار الجامعة في اللغة والدين  والمعرفة والفن.
قد أعلن النص الديني تدشين حضارة إنسانية جديدة ذات بعد عالمي ، ولدت مع لحظة الوحي المقدسة، ونشأة الإسلام الأول في رحم الفتنة الكبرى، ونحن ننتمي فعلا في هويتنا وشخصيتنا إلى تلك اللحظة الفارقة والممتلئة ، التي تفرعت عنها في ما بعد ثقافات محلية تكونت في الأطراف  بعيدة عن المركز الديني المؤسس ، في مصر والعراق والشام وإفريقية وفارس والهند وتركيا وغيرها ، ونشأت حول المصحف  نصوص تأويلية مختلفة ومتنازعة تبحث في علاقة الإنسان بالله وبالكون، وتحدد علاقة الإنسان بالإنسان، ومسألة الدولة ونظام الحكم ...ظهر ذلك في مقالات الفرق الإسلامية ذات المذهب السني  الحنبلية والمالكية والحنفية والظاهرية والشافعية، أو ذات المذهب الشيعي  الإثني عشرية أو الإسماعيلية أو الزيدية أو غلاة الشيعة ، وفرق الخوارج  من نجدات وأزارقة و صفرية وإباضية...،  وفرقة المعتزلة بمقولاتها العقلانية، والمشهور في أقوال علم الكلام، وغزير ما كتب المتصوفة شوقا إلى الحقيقة الإلهية، وما دونه أعلام المفكرين من أمثال الجاحظ وابن تيمية وابن سينا والفارابي وعمر الخيام وابن خلدون وابن رشد ... وملأ ذلك الإنتاج المعرفي والروحي كل المدى التاريخي والجغرافي للحضارة العربية الإسلامية، وسيتحول هذا الموروث في ما بعد إلى مصدر محرك وملهم للأحزاب الإسلامية المعاصرة.
تجلت الحضارة العربية الإسلامية في إمبراطوريات ذات ثقل تاريخي ، الدولة الأموية في دمشق إلى سنة 750م  ثم الدولة العباسية في بغداد ، كانت قصص ألف ليلة وليلة ومغامرات السندباد وعظمة هارون الرشيد تعبيرا عن تلك الروح الإنسانية الإبداعية الخلاقة، ...كان سقوط بغداد على يدي التتار فاجعة ضخمة ومفاجئة عام  1258م ، إلا أن هذا العالم قد استطاع أن يمتص الحملة المغولية القاصمة ويذيبها في داخله، كذلك شأن الحملات الصليبية التي انتهت بتشكل صورة رمزية للقائد صلاح الدين الأيوبي في المخيال الإسلامي إضافة إلى تدشين مرحلة جديدة من الصراع المسيحي الإسلامي،... واستعادت الدولة العثمانية تاريخية الحضارة العربية الإسلامية، فاستولت على القسطنطينية وحولت كنيسة آيا صوفيا بكل رمزيتها إلى جامع إسلامي عام1450م ،...وتوجه كل جهد السلاطين العثمانيين إلى اكتساح اروبا من الشرق، وحقق الجيش الانكشاري عظمته حين حاصر فيينا في العمق الاروبي، كانت قراءة خاطئة لسيرورة التاريخ رغم الانجازات العسكرية الباهرة،إذ كان الأجدر أن ينقل الصراع إلى الأندلس لإنقاذ عالم إسلامي غني ومفتت  إلا انه يحتضر، عالم ابن طفيل في حي بن يقظان أو هو عالم ابن عربي في الفتوحات المكية أو عالم الشاطبي في فكر المقاصد،في ذلك الوقت كانت اسبانيا القشتالية تنهض باروبا من الغرب، ومثل سقوط غرناطة  عام 1492م حدثا تاريخيا حزينا ومفصليا في الصراع المسيحي الإسلامي سيرجح الكفة لعالم غربي متحفز للغلبة والسيطرة، ومقبل على عصر جديد .
خلال القرن التاسع عشر وما تلاه، نشأ فكر إصلاحي شكل لحظة وعي حزينة بانحطاط الذات في مواجهة الآخر الاروبي،  مندفعا برغبة عميقة في النهوض بالأمة لتحقيق أسباب التقدم والتمدن وإنقاذ هذه الحضارة من الانهيار، كان منطلقه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأحمد بن أبي الضياف وخير الدين باشا التونسي وغيرهم ...، وتمسك هذا التيار الفكري  بموروثه التاريخي والديني ودعا إلى الاقتباس من الآخر في العلوم والمعارف خاصة في مجال التنظيمات السياسية إلا أن ذلك الوعي لم يكن كافيا لصد الغازي الأجنبي ومنع الاستعمار القادم عنوة من اروبا. 
ولسنا هنا بصدد التأريخ لنشأة الحركات الإسلامية المعاصرة ، وإنما ما يعنينا هو البحث عن الجذور المؤسسة لفكرة الإسلام المتعدد أو" الاسلاماوات " داخل المشروع الحضاري في أبعاده التاريخية ،  فالإسلام السياسي يمثل الايدولوجيا الغالبة الآن في المشهد السياسي العربي ، والقادرة على حشد الناس وتحميسهم إيديولوجيا،  بل إنها أكدت أنها  نتاج ثقافة متماسكة في الماضي، تتمرد باستمرار في الحاضر ضد القوى المهيمنة منذ عقود ، ضد مشروع نهاية التاريخ  الذي سوقت له الإدارة الأمريكية ..، وليست تونس أو مصر بمعزل عن تلك الأحداث  بل أثبتت كل منهما أنها في قلب الحدث، فانطلقت فيهما هبة شعبية مفاجئة بعد سبات طويل، هي انتفاضة الضمير التاريخي اليائس وهو يبحث عن ذاته الهائمة،عن مقومات شخصيته وانتمائه الحضاري ووجوده في العالم، يأتي ذلك إثر حقبة من الهزائم هيمن فيها التيار القومي العربي  والتيارات اليسارية الماركسية والتي تراجع تأثيرها  داخل الجماهير، لأن الايدولوجيا أيا كانت لا يمكنها أن تحافظ على شوكتها وقوتها  إلى ما لا نهاية، إنها فكرة تعيش مثل الإنسان دهرا، ثم تزول الأسباب التي أنتجتها، فتزول هي أو تتحول في ما يطلق عليه بالمراجعات الذاتية ، وهذا ما سينطبق أيضا على الايدولوجيا المحركة للأحزاب الإسلامية المعاصرة لاحقا، ومخطئ من يعتقد أن تلك الأفكار لا تتآكل ولا تنتهي ، سوف تتراجع فكرة الإسلام السياسي وفق تصوراتها الحالية  بعد مدة من الزمن ، إلا أن الإسلام كديانة سيبقى مستمرا ومحركا ومنتجا أساسيا في تاريخ الإنسانية .
قد نستدل  بالعصبيات القومية التي أسست إمبراطوريات في اروبا ثم زالت فانتهت ، وأسست الماركسية عملاقا هو الاتحاد السوفيتي ثم انتهى أيضا ، مثلما أن الليبرالية الغربية قد أنتجت الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغت أعلى هرم القوة ، وهي تسير الآن نحو التراجع الطبيعي فالتهاوي أمام عصبية جديدة قادمة من الشرق وفق المنطق الخلدوني، قد تكون الصين الحديثة التي تبتعد بسرعة عن أفكار  ماو تسي تونغ المنغلقة على العالم الصيني،  لتتحول في اتجاه القيم الغربية للحداثة، هو المارد الصيني يخرج من قمقمه في أقصى الشرق نحو العالمية.
         فإذا سلمنا بأن التيارات الإسلامية تهيمن على المشهد السياسي في العالم العربي والإسلامي فان هذه الشعبية التي تتمتع بها النهضة في تونس أو الإخوان المسلمون في مصر وتخيف ما حولهما من الأحزاب، إنما مرجعها إلى دورة تاريخية طبيعية  تتصدر فيها فكرة الإسلام الأفكار السياسية لدى عموم الناس ، وليس عائدا بالضرورة إلى قوة هذه الأحزاب من الداخل، فهذه الفكرة  تقدم نفسها الآن كحاضن حقيقي  للهموم الوطنية ومعارض راديكالي للتطبيع مع  إسرائيل ، ورافض للسياسات الأمريكية في المنطقة ، قد يعود ذلك أيضا إلى فشل عديد التجارب السياسية اليسارية أو القومية في النظام القطري العربي المتهاوي، والتي تحولت إلى دول استبدادية وقمعية فاشلة لم تنجح في تحقيق أسباب التمدن والتحضر، وأصبحت الفكرة الإسلامية هي الملاذ المتبقي لتحقيق آمال الجماهير الخائبة في استعادة المجد الضائع منذ قرون، ولا ندري مدى قدرة هذه الأحزاب على تحقيق أفكارها المثالية أحيانا والمغايرة للواقع أحيانا أخرى. 
      في الشرق حيث إمتد الإسلام القديم ، لخصت مقالات أبي الأعلى المودودي الرؤية الهندية للإسلام السياسي ، و أسهمت في بناء كيان دولة باكستان على أساس العقيدة الإسلامية  بعد الانفصال عن الهند الكبرى، مع محمد علي جناح رجل السياسة ومحمد اقبال المفكر المدهش فعلا لمن يقرأ كتاباته ، فتأسست الباكستان على أساس ديني محض، في مواجهة العقيدة البوذية المتصلبة للسيخ و الهندوس ،  كانوا جميعا ينتمون إلى تاريخ مشترك للهند تتعايش فيه أديان كبرى نقصد البوذية والإسلام ، إلا أن صراعا عقائديا متوحشا ارتكبت فيه فظاعات وغذاه الاستعمار البريطاني قد أدى إلى تقسيم الهند إلى ثلاث دول هي الهند والباكستان وبنغلاداش ، ولم تستطع الباكستان أن تحقق أي انجاز باستثناء صنعها للقنبلة النووية ، فقد أنهكتها الحروب المتتابعة ضد جارتها الهند، وانخرطت في سباق تسلح محموم للمحافظة على وجودها وزجت بها الجغرافيا والتاريخ في كل حروب الأفغان ، ضد الروس وضد الأمريكان ، فتناست هذه الدولة الإسلامية المنشأ دورها الفكري وأسبقيتها التاريخية ، وحولت تلك الحروب الدموية المتعاقبة الاجتهاد في الدين من فكر منفتح ومتسامح إلى فكر متطرف، وظهر تيار ديني محارب ومنغلق تماما،توسع على حساب فكر منفتح وعقلاني تجسد في حركة طالبان المقاتلة، كانت تجربة مؤلمة ... إلا  أن الرؤية الباكستانية الحديثة  ستظل احد مصادر الفكر السياسي الإسلامي المعاصر. 
 في المقابل أعتبرت إيران أنموذجا سياسيا غير مقبول لدى النخبة السياسية العربية عموما ،بدأت بمشروع ثوري وانتهت إلى عقلانية الدولة، فصحيح أن إيران الإسلامية قد حققت نجاحات اقتصادية جديرة بالاحترام ، وفرضت نفسها كقوة عسكرية وإقليمية فاعلة في الشرق الأوسط، إلا أنها كرست واقعا استبداديا وقمعيا في الداخل الإيراني، حتى إنها فشلت في تطبيق مبادئ الديمقراطية بين الأحزاب الإسلامية في ما بينها، كذلك شأن المعارضة اليسارية لحزب تودة أو مجاهدي خلق التي قمعت بشدة، أو الأقليات الدينية أو العرقية المهمشة في العمق الإيراني، إضافة إلى دورها الغامض والمريب في الساحة السياسية العراقية  ومغالاتها في العصبية الشيعية المنغلقة... تحولت إيران الإسلامية بذلك إلى دولة كليانية واستبدادية ، وفشل الإسلام الشيعي في الانفتاح على العالم الإسلامي الواسع  ، بل بقي حبيس فهم للإسلام بخصوصيات فارسية "كسروية "محضة.
    وحين نتأمل جماعة الإخوان المسلمين في مصر ذات المرجعية السنية ، فإننا نرى جسما سياسيا ضخما في دولة ذات وزن ديمغرافي واستراتيجي ، وهي جماعة تتحوز موروثا نضاليا طويلا في مواجهة الاستعمار الانجليزي ثم الدولة الاستبدادية من جمال عبد الناصر وأنور السادات إلى النظام المهترىء لحسني مبارك ..، فحسن البنا وسيد قطب  يمثلان الإلهام الفكري والسياسي للإخوان ، هذا الفكر الذي تتطور من العنف الثوري في مواجهة الأنظمة الفاسدة وتغيير قيم المجتمع ، إلى مراجعة تدعو إلى النضال السلمي والانخراط في العملية الديمقراطية ، واستطاع الإخوان أن يصمدوا أمام الحملات الأمنية العنيفة والقمع الوحشي ، إلا أنهم  فشلوا في تغيير نظام الحكم ، في مقابل نجاحهم في المحافظة على وجودهم السياسي تحت عنوان المستقلين في مجلس الشعب ، وقد جنح بعض الإخوان منهم إلى تبني أفكار متطرفة في ما سمي بالسلفية الجهادية مثل التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية التي تبنت فكرة العنف الثوري لفرض أرائها المنغلقة بالقوة على المجتمع بدعوى العودة إلى الله وتأسيس الدولة الإسلامية الخالصة، بقي الإخوان في حالة دفاع عن النفس وفقدوا القدرة على المبادرة السياسية في غياب تام للقيادة الحزبية ذات "الكاريزما "، حتى فاجأتها الثورة العربية
ويبدو أن المثال التركي قد أصبح الملهم الرئيسي للتيارات الإسلامية المعتدلة والباحثة عن مكان لها في اللعبة الديمقراطية ، مثلما تبحث عن اعتراف الغرب بها كشريك جديد محتمل ، اختزل أردوغان كل التجربة النضالية لنجم الدين اربكان الأب الروحي لحزب الرفاه ثم لحزب الفضيلة في محنته الطويلة في مواجهته للعلمانية وللمؤسسة العسكرية التركية، وقد حافظ  اردوغان فعلا على تاريخية تركيا في انتمائها إلى الشرق، وأعاد رسم صورة السلطان سليمان القانوني في حنين سياسي  إلى رمزية الباب العالي ، حين تحدى شخصية بيريز واستمات في الدفاع عن الفلسطينيين في قطاع غزة، فتحول إلى زعيم إقليمي ملأ الفراغ في مجال سياسي عقيم، وجسد حزب العدالة والتنمية مبادئ الحداثة والحرية والديمقراطية في لباس إسلامي معتدل وواقعي ، تعيش معه تركيا أفضل سنواتها منذ الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية ، إنه حقا الزمن السعيد للأتراك.
قد ننتهي في الختام إلى أن الإسلام دين لا يطابق تماما الأحزاب الإسلامية المعاصرة، إنها تنظيمات سياسية ناشئة، لها جذور عميقة في التاريخ الإسلامي، وقدمت تأويلاتها المختلفة للنص الديني وفق خصوصياتها الثقافية والتاريخية فنشأ عن ذلك ما نسميه بالإسلام المتعدد أو "الاسلاماوات "، وبالتالي فإنها لا تعدو أن تكون أحزابا ذات مرجعية محافظة على الموروث توظف الظاهرة الدينية في المسألة السياسية بلا شك، وهي ترى في التمسك بالماضي طريقا للنهوض بالحاضر، وأن مقومات الهوية والانتماء والشخصية تحفظ فكرة التمايز عن الأخر وتمنع من الذوبان فيه، ...ثم إن تاريخ هذه الحضارة مليء بالأحداث الكبرى والتحولات التي تؤثر في المخيال الجماعي ، وتوجه الأفكار والتصورات في المستويات العميقة للوعي لدى الأحزاب الإسلامية ذاتها دون أن تتمكن من رصدها ، وثبت بهذا أن الإسلام الأول في بداياته قد ظل فكرة منتجة باستمرار للذات وللمعنى نقيضا للفوضى، حول لغز غائب بالكلية وحاضر فينا هو الله، لمشغل إنساني دقيق هو تأسيس فكرة العدالة أو مفهوم السعادة الإنسانية.  
                                                                                     المعز الحاج منصور  


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire