في تحولات سياسية عميقة أطاحت بأنظمة إقليمية تقليدية في العالم العربي وأعادت رسم المشهد السياسي
لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، في اهتزازات اجتماعية أشبه بالزلزال ،
هبات جماعية لشعوب مقهورة حطمت أوثان
الاستبداد واقتلعت مفهوم الحزب
الواحد والقائد الأوحد ونظام الحكم المطلق ...في فوضى التحولات ترى الكل يبحث عن ذاته ، عن
موقع له من فوق التلة ...وينزع البعض
لباسه ويغير آخرون ألوانهم ، وآخرون يبدلون اللغة التي بها نطقوا زمنا طويلا
... ويتنادى الكل إلى قميص عثمان أو- قميص
البوعزيزي - والجميع يطالب بدمه وبالقصاص ..حتى قتلته أيضا يصرخون طلبا للعدالة
من سفاح توارى من خلف ستار ...
تغيرات
مخيفة ومدهشة تتدافع في زمن قصير ،تستدعي قراءة متأنية للماضي القريب .
فالخارطة السياسية في تونس فاجأها الزلزال ، كان فراغا واسعا ، ثورة بلا قيادة ولا أحزاب ، تغيب عنها
الشخصية القيادية الكارزماتية التي تتمتع بسلطة أدبية على الناس . تلك الشخصية
التي يلتف حولها البعض وتنادي بها الجماهير ويرضى بها معارضوها ، نحن في حاجة إلى قيادات سياسية
يثق بها الناس ويقبل العالم الخارجي أن يتعامل معها بحكمة وعقلانية واعتدال .دون خضوع ...
في ظل هذا الفراغ تاه الناس ، بعد أن منعت عنهم حرية التفكير في
السياسة لأكثر من عشرين عاما ، أجيال جديدة ولدت ونشأت وهي لا تعرف الايدولوجيا
المعاصرة أو الأفكار السياسية من حولها ، تشعر
بالظلم إلا أنها لا تحسن توصيفه ، اليسار الماركسي أو القومية العربية أو الإسلام
السياسي أو العلمانية أو الفكر الليبرالي
... وإذا بهؤلاء الشباب إزاء أسماء مثل حمة الهمامي أو نجيب الشابي أو راشد الغنوشي أو أحمد
المستيري ، وهم لا يعلمون كذلك ، أن في
ثقافتنا مفكرين بارزين من أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون وبرهان غليون وحسين
مروة وعبد الله العروي وغيرهم كثير ...
هذا الفراغ لم يستطع السياسيون المعارضون في
تونس أن يملؤوه ، بعد أن تم تغييبهم دهرا طويلا عن الساحة السياسية بإكرا هات العنف ، وهم يحتاجون إلى وقت طويل
حتى يعيدوا تجميع قواهم أو التأثير ثانية في جماهير مجيشة إلا أنها تفتقد الخبرة
والمعرفة بأفكار السياسة ...
وهنا كانت قيادة الاتحاد
العام التونسي للشغل تبحث عن مواقع جديدة لها في القرار السياسي ، أرادت أن تكتسح
مجالا سياسيا أوسع من المطالب النقابية
وهو مطلب مشروع أن يشارك الاتحاد
في الهموم الوطنية ...إلا انه مطلب مغلف
برغبة خفية في التخلص من تركة الماضي ، أن
يشطب بجرة قلم كل ذلك الموروث الثقيل من الولاء لنظام بن علي طيلة فترة حكمه ، ولا
يمكن لقيادة الاتحاد أن تدعي أنها كانت تعارض النظام السابق ، إنما كانت حليفة مخلصة له وتلبس جبته ، وإلا لما أمكن لها أن تستمر في
الوجود في دولة استبدادية لا تعترف بالمعارض ....
بعد 14
جانفي ، أصبح الاتحاد يتصرف مثل حزب سياسي قوي ، في ظل ترهل الأحزاب المعارضة التي
أضعفها قمع الدولة الكليانية ، أو أحزاب أخرى
كرطونية مصنوعة من ورق كانت تشارك في
مسرحية الديمقراطية الوهمية التي تدافع عن بن علي أكثر من دفاع التجمعيين عنه...تحول
الاتحاد إلى حزب في عباءة العمل النقابي ، إلا انه حزب بلا إيديولوجيا أو أفكار أو
برامج سياسية لأن المطالب النقابية لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى العقيدة السياسية ، إن الاتحاد
يكتسب شرعيته من معارضته لكيان الحكومة القائمة ، بعد أن كان يكتسب شرعيته من
تحالفه مع الحكومة
البائدة ، وعليه أن يختار بين أن يكون حزبا أو أن يكون نقابة لان العمل
السياسي ينتهي إلى المتاجرة بالنقابة في سياق التحالفات والمصالح ..
ثم إن استمرار تأزم
الأوضاع السياسية في تونس يصرف النقابيين عن خلافاتهم الداخلية ، والمبدأ هو
المدافعة عن حقوق الطبقة العاملة كهدف أسمى ، قد يحتاج الاتحاد إلى قيادات نقابية جديدة لإصلاح
الاتحاد من الداخل وحفظ التوازنات
الاجتماعية ، فاللعبة الديمقراطية تقتضي تغيير القيادات ...
وفي الأحزاب السياسية ينظر الجميع بحذر إلى الإسلام السياسي الذي تتزعمه
النهضة ، كمعارضة عائدة ذات مرجعية دينية . كانت حركة جماهيرية متماسكة
ومهيمنة ومنافسة لنظام بن علي الجديد في
نهاية الثمانينات ، إلا أنها انهارت أمام الضربات الأمنية الموجعة ، وانتهى بها الأمر إلى السجون والمنافي وتعرضت لكل طرق التنكيل غير الإنسانية ..وتحالف
الجميع مع بن علي وصفقوا حين سقط الثور - ثور ابن المقفع - ، وفرحوا حين تخلصوا من
أعتى الخصوم السياسيين ، وكانوا شهودا على مذبحة تونسيين إلا أنهم إسلاميون ...أصبح
التعبد أو التدين تهمة إجرامية تستوجب أقسى العقوبات ...وتحول الإسلام السياسي إلى
تهمة بالكفر ، كفر بالدولة وبالمجتمع المدني ....
حركة
النهضة كانت تمثل بعمق ، تيارا دينيا إسلاميا إلا أن قيادتها قد أساءت فهم الواقع
السياسي في بداية عهد بن علي ، مثلما اخطات
في استقراء النظام الدولي الذي بدا يتشكل
بعد حرب الخليج الأولى وهزيمة الجيش العراقي في الكويت ، حين شرعت الولايات المتحدة في تثبيت سيطرتها
على عالم عربي ضعيف ومنقسم . وبدات انظمة
الرفض التي تلتحف بلحاف الوطنية تتهاوى
لتعلن البيعة للسيد الامريكي المهيمن واصيبت الذات العربية بانتكاسة كبرى ... كانت حركة النهضة معباة جماهيريا
كما لم يكن اي حزب سياسي في تونس من قبل ، شباب مندفع بروح دينية وحماسة غير
مسبوقة الا ان النهضة اخطات في حق هذا الشباب حين زجت بهم في معركة
خاسرة وغير مدروسة العواقب ...وقيادة النهضة تتحمل كامل المسؤولية في تلك النكبة
الانسانية المؤلمة تجاه ابنائها ...ها هي الان تستعيد حقها في الوجود في ثورة لم
تخطط لها وكانت حلقة ضعيفة فيها ، قد يخرج
من هذه الحركة جيل جديد على شاكلة حزب العدالة والتنمية في تركيا يرفع عن الناس
الخوف من الاسلام السياسي ويقبل بفكرة
الديمقراطية .
في المقابل كان اليسار ضعيفا في بداية
عهد بن علي ، تهاوت ايديولوجيا ماركس مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار
برلين وانقلبت انظمة اشتراكية استبدادية في
كامل اروبا الشرقية ، وتحول اليسار في تونس الى مجرد اثار للتيارات اليسارية المناضلة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي
...تحول اليسار فكريا ليصبح فكر النخبة
العلمانية الا ان هذه النخبة قد ارتمى قسم
منها في نظام بن علي الذي كان يحتاج الى مثقفين قادرين على مواجهة الاسلام السياسي
ايديولوجيا ، واصبحوا جزءا من التجمع الدستوري الديمقراطي كحزب حاكم متضخم ...قسم اخر من اليسار تمسك بمبادئه الفكرية والانسانية واستعصم بتاريخه النضالي الا انه ظل ضعيفا بين
انحسار الفكر الماركسي كايديولوجيا عالمية ، وبين قمع الدولة الامنية المستبدة ... كان حمة الهمامي مثالا لليساري
العنيد مناضلا ثابتا في مواقفه
السياسية الا انه وحيد في معركة غير متكافئة
...وهذا التيار جدير بان يكون له حيز في اللعبة السياسية حتى يتحقق التوازن بين
الافكار المتعارضة نقصد ما بين الديني والعلماني ، اليسار حامل المرجعية الماركسية
مدعو الى الاقتراب من جماهير لا تعرف عنه الا القليل...
الفكر
القومي كان ناصريا بامتياز في تونس ، حركة ناصرية تؤمن بقومية عربية مكافحة تبحث
عن استعادة مجد قديم إلا انه مجد حالم
ومثالي . وظلت القومية البعثية ضعيفة لضعف تأثير أصوات الشرق فينا ، كان جمال عبد
الناصر أنموذج البطل القومي الذي يحاكي صورة صلاح الدين الأيوبي في الضمير الجمعي ، كذلك استلهم صدام حسين تلك
الصورة المثالية في مخيال الشخصية العربية الجماعية ...حطمت هزيمة 67 طموحات عبد
الناصر مثلما تحطمت طموحات صدام حسين في حرب الخليج الأولى 1990 ... انكسرت نهائيا أحلام الوحدة
العربية وأصيبت الجماهير بخيبة
ومرارة مخزية حين بثت وسائل الإعلام
والفضائيات صورة الرجل صدام أسيرا تقلب
وجهه يدا جندي أمريكي ،
كان ألما موجعا ، وصورة
مذلة للرجل العربي ... سرعان ما عوضتها
صورة كبرياء صدام وهو يسير متعاليا إلى
حبل المشنقة ، في استعادة لبطولة عمر المختار .
القوميون في تونس في شقيهم
الناصري والبعثي مطالبون بتطوير خطابهم السياسي حتى يتواءم مع التغيرات الفكرية
والسياسية ، استمرار وجودهم فيه محافظة على عصبية قومية هي جزء من الهوية الذاتية
التي تتحمس لها جماهير واسعة في اللغة والدين والتاريخ والثقافة ..
وحين سقط النظام في تونس ، كان
الفراغ مخيفا يؤذن بالخراب في تونس ، فوضى عارمة
نهب وسلب ، مشهد سياسي هزيل لشخصيات
تتكالب على اقتسام الغنيمة ، غنيمة السلطة ، هنا ظهرت مؤسسة العسكر كضامنة للسلم الأهلي ولاستمرار وجود الدولة ...
كان العسكر ملازما لثكناته ، مهمشا عن قصد في عهد بن علي وكذلك كان في عهد بورقيبة واقتصر دوره على تنمية الصحراء والتدخل في
الكوارث الطبيعية ومراقبة الحدود...إلا أن العسكر كانوا قوة نظامية تخضع لانضباط صارم ، تلجأ إليه الدولة كلما
فشلت أجهزة الأمن ، في أحداث قفصة وانتفاضة الخبز وإبان حرب الخليج الأولى وفي أحداث سليمان ...الجيش تم إبعاده عن التأثير
في السياسة إلا أن هذا الإبعاد تحول إلى
عامل قوة يحسب لفائدته بعد الثورة . ظلت مؤسسته تتمتع بشعبية
واسعة بعيدا عن كل مظاهر الفساد ... ثم إن جيشا يلتزم الحياد في نظام دكتاتوري ليس أمرا هينا ، هو ولا شك موقف وطني من الحجم الثقيل ، و سابقة
في العالم العربي أحرجت الجيش المصري في
ما بعد ورسمت طريقا جديدا ممكنا لجيوش
تنحاز إلى شعوبها المقهورة ...
ليس الجيش التونسي في حجم
الجيش المصري إلا انه عسكر منظم وموال
لقيادة هرمية متجانسة ، أثبتت تبنيها لقيم
وطنية حين اتخذت مواقف حاسمة في لحظات
حرجة ...قد يخشى البعض من تدخل الجيش في
السياسة وهي خشية مبررة ، إلا أن
هذه المؤسسة هي وحدها التي تعيد الآن بناء دولة مفككة ومهتزة ، في وقت يتنازع البعض بحثا عن مواقع
لهم في السلطة ...يتحول العسكر بتونس تدريجيا
من الفوضى إلى النظام ، وهي التي ستمهد لبناء ديمقراطية حقيقية ...
في جانب آخر توجد نخبة
مثقفة واسعة بتونس كانت مستقيلة عن السياسة ، رفضت الانخراط مع النظام السابق في التجمع . ولم تكن لها القدرة
على مواجهته ، لنقل إنها لم تمتلك الشجاعة الكافية على الوقوف ضد بن علي باستثناء قلة قليلة ، هذه
النخبة بدأت تتجهز للمشاركة في النسخة التونسية للديمقراطية ، نخبة متعلمة ومتنورة
كانت تتابع سياسة بن علي في صمت ...هو صمت ناتج عن الخوف من التنكيل ، رغم انه صوت
معارض .وها إن أجيال الشباب قد أطاحت
بالدكتاتورية وقدمت لهذه النخبة فسحة من الحرية في لحظة مفاجئة ... و على الطبقة
المثقفة في تونس أن تتحمل المسؤولية في لحظة تاريخية فارقة ، أن تقدم وجهة نظرها
خارج الخطابات الإيديولوجية المنغلقة والمتشنجة
، وبعيدا عن التحالفات السياسية الضيقة و أن تحول مطالب الشباب إلى خطاب
سياسي ....
الآن . وفي هذا الفراغ الذي فاجأ
السياسيين بعد السقوط السريع لنظام بن علي ، قفز الكل دون استثناء يبحث عن مكان له
في المشهد السياسي إلا أن الفراغ لا يمكن أن
يمتلئ إلا بعد سنوات حتى ينتج المجتمع شخصيات سياسية وطنية جديدة ، وان تفرز أنموذجا سياسيا يمتلك شرعية شعبية وخبرة في السياسة تضاهي تلك التي في كاريزما - أردوغان تركيا - بقطع النظر عن خلفيته الإسلامية ... إن
الانتخابات السريعة المقبلة لن توصل إلى الحكم إلا شخصا هو الأكثر انتهازية والأقدر
على أن يشكل أحلافا قوية في الداخل كما مع القوى الدولية والإقليمية لان الأرضية السياسية لم يكتمل بناؤها بعد ...
ثم إن الأوضاع السياسية في تونس لا يمكن أن تتوضح
إلا بعد سنوات ، حتى يرتسم المشهد السياسي
فتتبين الأحزاب القوية من الأحزاب الضعيفة
أن نفهم ما هي الأفكار التي تجيش الناس في السياسة ومن هي الشخصيات الفاعلة
لان وجود عشرات الأحزاب المتشابهة بلا
قواعد جماهيرية تساندها ، لا يساوي شيئا
في الواقع لأنه بلا معنى
نحن أمام
جمهور من أدعياء السياسة ، وتقدم الزمن وحده سيكشف من هي الأحزاب القادرة على
الاستمرار دون الحاجة إلى منحة دعم من الدولة ...تلك الأموال التي كان يقدمها بن
علي إلى الأحزاب الموالية كي يحافظ على استمرارها و بقائها ، هي رشوة لضمان المبايعة وتأكيد الولاء ... يجب أن تحذف هذه المنح لأنها أموال
الشعب الكادح
ولا يمكن بأي حال أن تدفع أموال الضرائب للمغامرين في السياسة ...إن كل
حزب مدعو إلى التعويل على تبرعات مناصريه وعلى شعبيته بين الجماهير وإلا فانه سوف
ينقرض ...
المجتمع في حاجة إلى أحزاب
فاعلة ومؤثرة ووطنية ، تدافع عن مصالح
البلاد في الداخل وفي الخارج ، أحزاب تتنافس في ما بينها ، في تجسيد لقيمة الحرية
، وهي تتبنى أفكارا متعارضة ومختلفة ، وهذا الاختلاف هو
الضامن الوحيد لاستقرار الدولة . أن يكون حزبا يساريا أو قوميا أو إسلاميا أو
علمانيا ...إننا نحتاج إلى ترسيخ ثقافة الاختلاف
أن نؤمن بحق الأخر في الاختلاف عنا ...هذا ما يؤسس لحرية التعبير عن الرأي
، دون خوف من المعارض أو خوف من أجهزة البوليس
...مثلما يؤسس لفكر نقدي وعقلاني يفكر في
الدين وفي السياسة وفي الدولة بواسطة العقل ...العقل الذي لا ينفي الأخر ولا
يقصيه بل يعترف بالجميع ،فيه فكر لا يدعي أبدا انه يمتلك الحقيقة لأن الحقيقة لا وجود لها ...
السياسيون المعارضون في تونس أصيبوا بالشيخوخة شيخوخة في الزمن ، ولا يعني ذلك أن نعزلهم عن السياسة وان نستغني
عنهم ، وإنما نحتاج إلى حكمة التجربة فيهم ...نحتاج إلى شخصية سياسية متنورة
ومنفتحة على العالم إلا أنها وطنية في انتمائها إلى ثقافتها وتاريخها نبحث عن سياسي عقلاني حد العلمانية ...يلتزم بقواعد
التقوى حتى نظنه زاهدا إسلاميا ...وصحيح أن السياسة لا أخلاق فيها إلا أننا
نطلب أخلاقا إنسانية في نظام الحكم في تونس....
المعز الحاج منصور


Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire