( الجزء 2 من
" سجوني " مهداة للأخ محمد ناعم الحاج منصور عجل الله سراحه ) .
هبت ريح صفراء على
القرية فقضت على الذئاب وبقية اللصوص الذين نهبوا القرية . وسميت بالريح الصفراء لأنّ الأفق أصبح أصفر زمن هبوبها . استمر هبوب الريح سبعة أيام
بلياليها كانت خلالها الريح تعوي كالعجوز الشمطاء في شوارع القرية الخالية بعد أن
هجرها سكانها . فلما سكنت الريح هطلت الأمطار بغزارة فجرفت سيولها جثث الذئاب
وألقت بها في المجاري . ورجع أهالي القرية الذين اعتصموا في السابق بالجبال
فتخلصوا من الذؤبان المتبقية واحرقوا جثثها بالنار حتى لا يفشو الوباء في القرية .
ونبشوا قبر الحجاح فاستخرجوا هراوته التي
بقيت على حالها رغم مرور خمسة أعوام من دفنها مع صاحبها , وعلقت الهراوة في
الساحة . ونظمت فرق للحراسة الليلية تحسبا من رجوع الذئاب . وأفرج عن الرجل الذي بلغ
عن السرقات من حبسه وتم تكريمه كمناضل , وسميت القرية باسمه .
شطح الخيال بالقاضي وهو
يسترجع تلك الأحداث حتى انتبه على يد تربت فوق كتفه . التفت ساهما فرأى شقيقه
يتبسم له . لقد جاء ليصحبه إلى البيت بعد خروجه من السجن .
-
هل أنت بخير يا أخي ؟ قال شقيقه .
-
نعم .. أنا بخير .. هيا بنا !
ومرت الأيام
. وفي يوم 03 أكتوبر أفاق القاضي مبكرا فجلس في صحن الدار قبالة جده . وكان الجو
صحوا والسماء صافية . لكن جده الذي ناهز الثالثة بعد التسعين قال وهو يتأمل
في السماء :" هناك عاصفة في الأفق ! " . فرفع القاضي رأسه
مستغربا : " ولكن الجو صاف يا
جدي ! " . فتنحنح
الشيخ وقال بلهجة واثقة : " من الآن إلى
المساء سيتبدل كل شيء " . فسكت القاضي لأنه يعلم أن جده لا يخطئ إذا تعلق الأمر
بأحوال السماء وتقلبات الطقس . كان ذلك الشيخ يشتم رائحة العواصف من بعد أميال .
فلما هبط المساء بدأت الغيوم تتجمع في السماء . ثم تقترب من بعضها وتتصافح وتتعانق
كأصدقاء لم يلتقوا منذ سنين . وكانت الريح في الجو العالي تزجر كل غيمة تتخلف عن
ملاقاة أصحابها وتسوقها أمامها كراع يسوق شياه شاردة . فلما تلبدت السماء بالغيوم
جعلت الريح تمسك بها وتركمها فوق بعضها كأكداس التبن . وأطبق السحاب على الأرض .
فومض بارق من السحاب الثقيل وجعل الضغط يحلب السحاب فيقطر منه الودق . وفجأة زمجر
رعد قاصف وانهمر المطر . ساح المطر في
البداية غزيرا ثم مهطالا ثم مدرارا . وكان الجبل المحاذي للقرية ينتصب في ظلام
الليل بقامته الفارعة كالغول يحرس القرية . سقطت صاعقة على الجبل فهشمت بعض الصخور
. واستمر هطول المطر . تدثر القاضي في فراشه بعد أن اطمأن على أمه .. وكان من
عادته لا يأوي لفراشه إلا بعد أن يغطيها . زادت وتيرة الصواعق التي كانت فرقعتها
تثير الذعر . لكنها لم تقترب من القرية فسقطت جميعها على الجبل . كانت السماء
غاضبة من ذلك الحارس الذي يدعي حماية القرية . أمسكت السماء بيدها صاعقة كالرمح
وصوبتها إلى الجبل ثم أطلقتها على صدره . لكن الجبل لم يتزحزح من مكانه . فانتفضت
السماء الغاضبة صاعقة أخرى ودمغت بها راس الجبل . بيد أن الطود ظل منتصبا كالمارد . فاستشاطت السماء
حنقا من تحدي الجبل لها وصبت عليه سخطها دفعة واحدة فزادت وتيرة صواعقها وأصبحت
ترميها على الجبل كيفما اتفق . تواصل هطول المطر طيلة الليل . وعندما طلع النهار
كانت الشمس ضاحية كأن لم تهب عاصفة بالليل وكأن لم تحدث مواجهة بين السماء والجبل .
جلس القاضي يرتشف القهوة ويمز السجائر. وكان الراديو يذيع بعض الأغاني والبرامج
السمجة . ولكن البث انقطع فجأة لإذاعة خبر عاجل .. " تم اليوم إصدار بطاقة إيداع
بالسجن في حق السيد محمد ناعم الحاج منصور مدير جريدة الثورة نيوز ... "
هب
القاضي من مكانه كمن لدغته أفعى وقال غير مصدق ما يسمع :
" ماذا ؟؟ !! .. مستحيل !.. لا يمكن !
" . وكان ابن شقيقته يلعب الكرة في صحن الدار فنهره وأمره بمبارحة المكان .
وطفق يتلفت يمنة ويسرة كالمختبل باحثا عن علبة السجائر . ثم جثم في مكانه وراح
يدخن بشراهة . وكان من عادته أن يخمد السيجارة
عندما يحترق نصفها , لكنه في هذه المرة
كان ينسى السجائر في يده حتى تحرق أعقابها أنامله . هو لا يعرف صاحب الجريدة . كل
ما يعرفه أن الحاج هو الوحيد الذي دافع عنه عندما كان في السجن .. ولذلك أحبه حبا
جما . تألم القاضي في صمت ودون أن يظهر ألمه للآخرين ..
وهي العادة التي ورثها عن أمه
القوية التي كانت قابعة في ركن بالحجرة تراقبه وتتألم لألمه . تحفز القاضي للنهوض ,لكن ألما مفاجئا أطبق
على صدره وسمره في مكانه . وتسرب الألم بين أضلاعه حتى وصل إلى قلبه فقبض عليه
وصار يخنقه ويضحك كما يخنق الشيطان الرجل المصروع . غمغم القاضي : " لا يمكن لأي الم في الدنيا إن يثنيني عن
النهوض !" . فقام على حيله وتوجه إلى حجرته
. فتصفح مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية ومجلة الإجراءات الجزائية . وطلب
محاميا بالهاتف وسأله عن مرسوم الصحافة . راجع تلكم النصوص ;لكن واجب التحفظ
منعه من الإدلاء بأي رأي . لقد كان مكبلا . أوصد باب الغرفة وجلس على الكرسي واطرق
إلى الأرض . ثم أطلق العنان للبكاء . وكان في غمرة بكائه يتوجس من بلوغ نشيجه إلى
الخارج . فهو لم يكره في حياته أمرا كرهه أن يرى الناس ضعفه و انكساره .. حتى و لو
كانوا أهل بيته . لمح من سحابة دموعه ابنة أخته الصغيرة تسترق له النظر من كوة
النافذة . فكفكف دموعه بسرعة وناداها وقال لها محذرا :" إياك أن تخبري أحدا بما شاهدت ! أتفهمين ؟ " . فقالت الطفلة ببراءة :" لماذا كنت تبكي يا خالي ؟ هل الرجال يبكون أيضا
؟ " . فدفع بها إلى صدره وانفجر باكيا وهو يقول :"
يبكون يا حبيبتي .. يبكون .. وعندما يبكون تكون الدنيا قد صارت أضيق من ثقب الإبرة
وتكون السماء قد أطبقت على الأرض .. " . جافاه النوم تلك الليلة . فظل
مستلقيا على الفراش يفكر . وتذكر ما قاله جده عن زوبعة الليلة الفائتة .. "
السماء يا ولدي لا تغضب على الأرض إلا إذا كان في الأرض رجل عظيم يتألم " .
فترقرق الدمع في عيونه وقال بصوت مرتفع :
" لا شك أن الحاج يتألم في سجنه .. ذات يوم أخرجني ذلك الرجل من سجني وأنا الآن
عاجز عن مساعدته .. " . تمنى في تلك اللحظة لو لم يكن قاضيا ليرد له الجميل
بما أمكن . وفكر في تقديم استقالته .
وبينما هو غريق في بحر أفكاره دخلت عليه أمه
وسألته إن كان يرغب في العشاء . قال لها :"
لا رغبة بي إلى الطعام يا أمي .. تعشي أنت " . قالت : " ولكنك لم تأكل شيئا منذ يومين يا هارون
" . قال :" أنا متمرس
بالجوع .. أنسيت أيام الجامعة ؟! .. وطفولتي التي
قضمت فيها الصخر ! " . بعد
انصراف أمه وثب من الفراش إلى الخزانة يبحث عن كتاب " ألف ليلة وليلة "
. وبعد ساعة من التنقيب عثر على المجلد
تحت كومة كتب فاستخرجه و نفض عنه الغبار وفتحه كما اتفق . إنها حكاية
" بدر البدور بنت شاه بندر التجار " . حكاية قرأها عشرات المرات ولم
يشبع منها . فاستلقى على سريره يعيد قراءة الحكاية حتى أخذته سنة من النوم .
وسبحان من لا ينام ولا يغفل . بدر البدور .. الصبية التي خطفها الجان في ليلة
عرسها ( ... ) .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire