واهم من يحسب أنّ كلّ السّحب تبشّر بالمطر...فكثيرة هي
الغيوم التي تعبر دون أن تهطل بالخير...
غير أنّ الأرض الحالمة تظلّ في انتظارها تطلب السّقيا للخلاص
من جفاف الحاضر ومن جدب الآتي...
وفي تونس ما بعد الرابع عشر من جانفي 2011 لمعت بارقات
الأمل لدى الكثيرين وتعلّقت الآمال بالحكومات المتلاحقة من حكومة الغنوشي إلى
حكومة السبسي إلى حكومة الجبالي فحكومة العريض فالمخاض الجديد لحكومة قد تولد
قريبا...
وفي كلّ مرّة ومع كلّ حكومة تخبو البارقة, وينطفئ
الحلم مخلّفا رماد الخيبة , خيبة النخبة من حَكَم منها ومن شرّع ومن عارض في إنجاب
حكومة تستجيب لمطالب شعب تنكسر آماله البسيطة على صخر وفاء "بارونات
السياسة" لمصالحهم الحزبية والشخصية وتنكّرهم لشعارات الرابع عشر من جانفي
...شعارات شعب بسيط حرّر الساسة من قمقمهم الذي سجنهم داخله المستبدّ المخلوع
واستودعهم أمله في الحرية فإذا الكلمة والرّأي يستحيلان كفرا وتعدّيا
على هيبة الدّولة ومؤسّساتها فنرى السياسي الذي يصدع بالموقف المخالف يّغتال ونرى
فنّان الرّاب يسجن ونرى المسرحيّ والشاعر يطارد ونرى الإعلاميّ يقاضى...
وإذا الحلم بالرّغيف , حلم "الطّعام لكلّ فم"
يستحيل تدهورا في المقدرة الشرائية حدّ الجوع وتهاوي الطّبقة الوسطى انحدارا
نحو خطّ الفقر أو ما دونه
وإذا الكرامة والعدالة والمساواة تستحيل شعارات لعودة
زمن الجواري وتعدّد الزّوجات يتغنّى بها بعضهم, وتعيينا في المناصب والوظائف وفق
مبدإ الولاء الحزبيّ...
ومع كلّ حكومة يفقد الشّعب جزءا من ذاكرته , فللسّياسة
إكراهاتها ولأصحاب السّلطان ولطالبيه حساباتهم التي تدعو المواطن إلى أن ينسى مطلب
المحاسبة قبل المصالحة وأن يئد مطلب فتح أرشيف البوليس السياسي وأن يدع خلف ظهر
الذاكرة شعار "الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية"...
سَلُوا الشّارع التونسي ولن تجدوا غير غضب من النّخبة
السياسية , ومن الأحزاب... غضبا ينذر باستقالته من السّير وراء هذه النّخبة
وبالتخلي عن التّظاهر إن استنفرته وبالمضيّ إلى التّصويت لها إن بلغنا مرحلة
الانتخابات المرجوّة...فعن أي ديمقراطية سنتحدّث إن كان الحاكم غريبا عن شعبه وعن
أيّ ديمقراطية سنتحدّث إن صار المواطن يرى صوته أغلى من كلّ الأحزاب؟
لعلّنا نمضي في سبيل مؤدّية إلى زمن النّخب الحاكمة,
المتصارعة على الحكم بلا شعب يقبل حكمها ويرتضيها له عنوانا...ولعمري إنّ زمنا
كهذا لن يكون زمن الديمقراطية الموعودة بل هو زمن الفوضى العارمة أو زمن الاستبداد
الجديد...
وعلى عتبات انتظار ميلاد الحكومة الجديدة كم يحلو لي أن
أحرّف قصيدة محمود درويش لتستجيب إلى خيبة المواطن التونسي أو لأقل الكثير من
المواطنين الّذين سيجدون فيها استجابة لمواقفهم
ومشاعرهم
بمجرّد أن يستبدلوا كلمة العام في القصيدة الأصلية بكلمة
الحكومة أو الحاكم في
القصيدة المحرّفة فالشّاعر يقول
"عام
يذهب وآخر يأتي
وكلّ شيء فيك
يزداد سوءا يا وطني "
ولكم أن تقولوا "حكومة تذهب وأخرى تأتي..."
ولمن يعدّ قولي هذا ضربا من ضروب التّشاؤم أن يصغي إلى
الأحزاب والشخصيات السياسية وهي تصرّح بصوت عال طورا وتهمس أطوارا بما صار يعرف
بتفخيخ الحكومة السابقة للأرض التي ستسير عليها الحكومة اللاّحقة فقد سمعت من والى
الترويكا الحاكمة يتّهم حكومة الباجي بنشر ألغام اقتصادية واجتماعية...تفجّرت في
وجهها فبترت سواعد التغيير لديها وأعجزتها عن الاستجابة إلى تطلّعات
المواطنين...فليس فشلها فشلا إذن بل هو إفشال مع سابقيّة الإضمار وقد يشخّصون هذه
الفخاخ في فتح الأبواب على مصراعيها للاحتجاجات الاجتماعية وفي الاستجابة إلى
زيادات في الأجور والمنح تتجاوز قدرات و إمكانيات الدولة فيما عدّ شكلا من أشكال
تأجيل الأزمة أو تصديرها لتسقط على كاهل الحكومة اللاّحقة...
وها إننا اليوم في انتظار ميلاد حكومة جديدة يرى
بعضهم أنّ الحكومة القائمة قد تركت لها فخاخا كثيرة قد لا تهتدي إلى تجنّبها دون
أن تثخنها جراحا فتسقط منهكة كما سقطت الحكومات السابقة...
وبعض هذه الفخاخ التي يشير إليها المتابعون للشّأن
السياسي تتمثل في المصاعب الأمنية النّاجمة عن التّساهل مع الإرهاب أو سوء التعامل
معه حتّى تجذّر واشتدّ عوده
ومنها التّعيينات في الوظائف والمناصب الإدارية
العليا باعتماد الموالاة الحزبية والتغلغل في مفاصل الدولة
ومنها القروض الكبرى التي تحصّلت عليها هذه الحكومة
ومنها التفويت في بعض المؤسسات الصناعية والتجارية
الوطنية لفائدة الخواصّ مما أفقد الدولة الكثير من مواردها
ومنها ميزانية 2014 التي ستعرف اعتمادا كبيرا على
"الأتاوات "والضرائب مما ينذر باستعار احتجاحات اجتماعية كثيرة ...
كذا لا أراني أجانب الصّواب إن اعتبرت هذه
الحكومات المتعاقبة التي تورّث بعضها تراكمات الفشل لم تغادر بعد ما يمكن أن أسميه
مرحلة الوعي الحسي البدائي الذي يجعلها تختزل وجودها في"هنا الآن" ولا
تدرك واجبها الذي سيحدّد مقدار نجاحها الحقيقي والذي سيسجلّه التاريخ بل
تعتصم بخطابات ماهي إلاّ تعلاّت تبرّئها من الإخفاق لتحمّله لغيرها ممن سبق أو لحق
ودعاية مغالطة تستجدي الأصوات الانتخابية أو تستعطفها أو تسرقها وهي ليست لها
أهل...
هي لم تغادر الوعي الحسي البدائي المماثل لوعي الإنسان
الأوّل الذي لم ير في الشمس شمسا واحدة تتكرر وإن تفاوت توهّجها بل عددا من الشموس
تظهر بعدد الأيام أي بما لاحصر له فتتصارع الشمس السابقة مع الشمس اللأحقة...وليس
بوسع المواطن أن يستبشر بميلاد حكومة مالم ير النخبة السياسية وقد تخلّصت من هذا
الوعي لتعدّ الحكومات نفسها استمرارا لكيان واحد قد تتنوّع مكوّناته الحزبية
وقد تتغير لكن وظيفتها واحدة لاتتغير فهو كيان يهب الوطن النور إن تهيّأت له
أسباب التوفيق ويهبه ظلمة إن ألقت الحكومة للأخرى بسُتُر تحجب إشعاعها ونجاحها ...
-فتحي البوزيدي-
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire