lundi 13 mars 2017

يوميات من سجن المرناقية: 150 يوما سجنا لأجل حرية الكلمة ... مأساة في حبس المرناقية... العبودية وتدمير الإنسان




كانت ليلتي الأخيرة في سجن المرناقية حدثا فارقا في مواجهة استبداد "الباجي"... ودكتاتورية الأحزاب السياسية، تلك التي صادرت حرية شعب بأكمله باسم الديمقراطية الزائفة...في الليلة الأخيرة أطلّت "حياة"... صرخ رفيق لي بالسجن:" يا جماعة إنها "حياة"... الحمد لله... إنها تحدس خيرا... أحدكم سوف يخرج إلى الحرية غدا."
 كانت "حياة" قد أطلت علينا في هزيع الليل من بين قضبان النافذة في الأعلى... إنها قطة ذات تاريخ ورمزية في سجن المرناقية... إنها صاحبة فأْل حسن لدى المساجين... وشعبيتها ضربت في آفاق السجن الممتد... حتى إنها زارتني ليلة النطق بالحكم الاستئنافي في محكمة العسكر وأطلت إطلالتها تلك.
 "حياة" اسم أطلقه عليها وليّ نعمتها وصاحبها وراعيها... وكان سجينا قد نزل السجن لسنوات... "حياة" كانت تلازم صاحبها المُكنّى ب"البلازما"... وقد تورط المسكين في سرقة تلفزات من نوع بلازما فالتصقت به تلك الكنية.
طال عليه السجن فاتخذ تلك القطة رفيقة له يؤانسها وتؤانسه... تؤاكله ويؤاكلها حتى تحولت إلى قطة مدللة ومحمودة في السجن... خرج "البلازما" من السجن فمنعوه من اخذ قطته تكريسا لسياسة القسوة الادارية في التعاطي مع من سلبهم القانون حريتهم... بقيت المسكينة وحيدة إلا أنها كانت مقربة من النزلاء ومتى أطلت على غرفة مّا، حتى يأتي خبر الفرج والسراح من السجن.


 كانت "حياة" طالع خير وجمال تمتلئ بالحرية في بياضها المرقع... طلعت علينا في الغرفة وكنت أنا متيقنا من الحرية... استبشر الرفاق بحياة... كنت أتوقع أن عصابة الشر بقيادة شوقي طبيب وكمال اللطيف ونور الدين بن تيشة سوف تنصب شراكا آخر ما وسعها الجهد.


 أنا أخوض حربا اكبر من رمزية "حياة"... حربا من نوع آخر... حربا بالنصوص القانونية حربا في السياسة والإعلام ضد أرباب الفساد.. هذا الكل المعقد... قضيتي اكبر من القطة حياة... لكن حياة كانت غيبة للحرية التي صادرها السجن من القتلة واللصوص والمحتالين والفقراء والمهمشين.
دخلت السجن شريفا ابن شريف... انكشفت على عوالم مدهشة... كيانات مؤلمة... أيحدث كل هذا في دولة الحريات ؟... في دولة الحداثة الكاذبة ؟... يا تعس العالم... ويا بؤس التاريخ.


انفتح باب السجن... لقيت شقيقي الأصغر والمحامي "جلال الهمامي"... جلال قاد معركة قانونية باقتدار... كان يواجه عصابة تختبئ خلف أجهزة الدولة... إنها دولة مارقة وقعت في أيدي لصوص ومصاصي دماء... كان جلال محامي الشرف والإباء والقيم... كان صديقا قديما من الأوفياء... زارني خلال 5 أشهر أكثر من 100 مرة... ذهابا وإيابا إلى السجن... كانت زياراته طوقا لي ودرعا داخل السجن... السجناء انبهروا برجولته.... صار اسما مشهورا في آفاق السجن... لم يتقاض أجرا... أسنده محامون آخرون من أصدقائي المخلصين ومعهم شقيقتي... كانوا كتلة من النار أثناء المرافعات.


 كنت أهم بالانفلات من الحبس... فتشوني قبل أن اخرج تفتيشا دقيقا... أخضعوني للتفتيش ثلاث مرات... عما تراهم يبحثون ؟ ... إنهم يخافون الأفكار... لكن الأفكار لا تكتب... الفكرة متى كتبت ماتت... أنا أنتج المعنى واللغة تحوله إلى فكرة... الأوراق تحول الفكرة إلى معنى جامد...من اصدر لهم التعليمات يعاني من حمق ابدي... الأفكار يصنعها الرجال... والورقة لا تصنع رجلا...احتضنني شقيقي ثم جلال...ركبت السيارة... تذكرت مشهدية سمير القنطار... ذلك البطل الذي لا يشق له غبار.
 سمير القنطار قضى 30 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي... كان يقاتل من اجل مبدأ... من اجل وطن...أنا قضيت بضعة أشهر فقط... معاناة السجن كانت مخففة... لكنني احترم الرجال الذين يقاتلون من اجل المبدأ.
 كانت الإجراءات الأمنية حول سجن المرناقية مشددة... أقاموا حول السجن سياجا من الأسلاك الشائكة... كان أصدقائي المخلصين وأهلي ينتظرون عند بوابة السياج الخارجي... بلغت السيارة السياج... ترجلت... قدموا إلي قدوم الرجال إلى الرجال... أنا اعرفهم إنهم عُصْبتي... إنهم حجر الصوان... خاصمت بهم وأنا مقيد في السجن... إنهم نواة الروح... قاتلوا بشرف حين ظن الناس أنني قتلت... حين قدموني قربانا في معبد الوثن الأكبر... تلك النواة كانت قلعتي التي لايعرفون.


 قُبلٌ وأحضان وضرب على الأكتاف... لم اقدر على الصمت وكان العسس من حولنا... صرخت بالصوت العالي أمام بوابة السجن: " سأحاربهم حتى الموت... سأكشف فساد كل السراق والأنذال... سأدفعهم إلى الهاوية... كل الخصيان والنّوكى والغلمان... سأشهر فيهم سيفي... فردا... فردا."
سمع القوم صرختي في رحاب السجن... العسس في بهات وابتسام... أنا هكذا... ضحك صحبي ضحكا لم يضحكوه من قبل... إنها الرجولة أن تسجن خمسا ثم أن تخرج إليهم ممتلئا بالمروءة والقوة والعزم.
ركبت السيارة كان رتلا من السيارات يرافقني... هم صحبي... سار في اتجاه العاصمة... كنت في وسط الركب... زعيما للقوم... مروج خضراء منبسطة في شهر الربيع... في الثاني من مارس لسنة 2017... كان يوما من أيام الربيع الفيحاء... أراض من المرج الأخضر في صباح الفرح... انها الحياة حين تمتلئ.
 كنت افهم العالم بطعم الحرية... تلك الحرية التي لا يعرفها إلا من ذاق مرارة السجن... كان ممتعا جدا أن تكسر القيد بيديك... أنا كسرت القيد.... بشرف الرجال... كنت محاربا بوذيا ومقاتلا من الساموراي... كنت أنا من مقاتلة "الحسين" في موقعة "كربلاء"... أنا انتمى إلى تلك الطينة من أصحاب المبادئ... لست شيعيا لكن بطولة الحسين وقوة شكيمته كانت تخترق كياني.
 أنا روح يشبه الدم الجاري في أجساد الشرفاء كمثل "بن غذاهم والدغباجي والشرايطي"... لم يكسر السجن إرادتي... السجن كان فرصة لتنقية الشرفاء... والخونة... الخونة أنواع... سوف آتيهم يوما.
 وصلت إلى الدار ... كانت عائلتي كبارا وصغارا تنتظر مقدمي... زال الغمّ وانقشع الهمّ... وانقلب الزمن من حال إلى حال. في الطريق سلمني شقيقي هاتفي الجوال... وانطلق الرنين... كثير من الأصدقاء... الخونة والشرفاء والمنافقون... الجميع يتصل... فيهم من كان يهنؤك فرحا وفيهم من يهنؤك ترحا.



 كان زمنا سريعا وممتلئا... تداخلت صور السجن مع صور الحرية... كان قلبي هناك مع البؤساء في سجن المرناقية... حين انفتح باب الغرفة في السجن ونودي باسمي إلى الحرية... بكى السجناء من حولي... كان البكاء نشيجا يذهب في جنبات الحبّ والرجولة.
 قال سجين من رفاق السجن:" لمن تتركنا يا "حاج"... أ لعدوّ يهتكنا أم لجلاد يعذبنا؟"... وكان الحاج كنيتي بين الناس مُذْ كنت صغيرا.
 نظرت إليه في صمت... ما كان لي أن أبقى في السجن... أنا لم أخلق للسجن... لكنني اعلم يقينا أنني كنت حاميهم في الغرفة... السجانون كانوا يهابون "الحاج" صاحب الثورة نيوز، والسجناء كانوا يتقربون إليّ.
كان بكاء الفراق مؤلما وموجعا... كنت اعلم أنهم يعيشون بؤس التاريخ، إنهم معذبون في الأرض... لكنني أحببتهم ... أنا لا اشتري الذّمم بالأموال... أنا شريت حب الناس لأنني افهم القانون واقدر على الكلام والكتابة والاقناع.... أنا في السجن وصحيفة الثورة نيوز تنشر... كان ذلك حيرة الأعداء.
 كانت عقدة لوبيات الفساد هي صحيفة الثورة نيوز... سجنوني كي تتوقف... لكنها لم تتوقف... إنهم حمقى... الصحيفة ليست فردا أو شخصا... كان خلفي رجال أشداء... كانوا مقاتلين.


 كانت عصابة الفساد تنهب الأموال من خزائن الشعب المقهور... كانوا عصابات، عصابات... تختص في كل أشكال الاحتيال المنظم.
 أخذت مفتاح سيارتي السوداء... كانت رفيقة الدرب... ما ركبت سيارة منذ سجنت... 5 أشهر بعيدا عن المقود... السيارة صارت جزءا من كيان الإنسان الفرد... شغلتها وانطلقت إلى منزلي... في الطريق تداخلت صور الحاضر بالماضي... كنت أتحدث إلى نفسي وأتكلم... تذكرت بداية الصراع ضد عراب الفساد شوقي طبيب وضد الغلام بن تيشة... تذكرت يوم دخولنا على مكتب قاضي الزور بالمحكمة العسكرية... كان المسكين ينفذ تعليمات أسياده... انه ينفذ قانون السلطة القائمة في أن تقمع الحريات... للأسف لقد دون اسمه في دفتر خدم الاستبداد... أودعني السجن... كان وقتها منتصرا لكن في الوهم... لكنني خرجت من السجن اشد عزما وإصرارا.


كل رجالات القانون الذين شاركوا في الزج بي في السجن دونوا أسماءهم في التاريخ الأسود ... لأنني كنت أول سجين رأي في دولة الثورة الزائفة.
 وصلت إلى داري فما قضيت فيها سوى ساعة... كان هنالك حنين ابدي يحملني إلى مجالسة الأصدقاء... أصدقائي المخلصين من الشرفاء الذين توكلت عليهم زمن المعركة.
 جاء فريقي من الأصحاب زرافات ووحدانا... وكان مجلسنا يلتئم دائما في المساء... كان احتفالا بالنصر على لوبيات الفساد... أرادوا إغلاق الصحيفة... وأرادوا كسر إرادتي وإذلالي وتشويه سمعتي... لكنهم فشلوا وخاب مكرهم.


 صحيح أنني قضيت في الحبس خمسة شهور... لكن صحيفتي استمرت بالصدور في تحدّ تاريخي... أنا لم أنحن براسي ولن انحني... بقيت واقفا مثل الأبطال... رفضت كل محاولات الوساطة والتراجع... الآن هم في خوف شديد... هاتفي لم يتوقف عن الرنين... أصدقائي المخلصين والخونة والجبناء... الجميع يتصل للتهنئة بالفرج.
 تذكرت أولئك المساكين في السجن... فيهم كثير من المظلومين والمقهورين... أحيانا كثيرة تعوزهم الأموال لتعقيب الأحكام واستئنافها... فيرتضي قضاء مدة حكمه لأنه بلا نصير ولا أموال.
 يا تعس العالم ويا جور التاريخ...أنا كنت قد قررت أن أعين من تيقنت من براءتهم... سأعينهم بالقانون وبالمحامين... في السجن هناك اتصل بي كثير من المساجين قصوا أخبارهم ونوازلهم وهمومهم وطلبوا النصرة... كان البعض يلتقيني سرا في المكتبة أو في المشرب... كنت أنا مراقبا وأتنقل بالمرافقة والحراسة.... كانوا يخشون صحيفتي ويخشون علي أيضا
من أقنعتني حجته من المظلومين سوف انتصر له من الظلمة... خرجت من السجن مملوءا بالأخبار والقضايا الجائرة... سأنشرها قطعا في الصحيفة.
 وما أثار حيرتي حقا هو ان مئات من المساجين السياسيين أولئك الذين نالوا ما نالوا من عذابات السجن زمن دولة الاستبداد... ولقوا عنتا في كل السجون... إنهم نسوا الآن تلك السجون ... لم يدافعوا عن بؤس الإنسان داخل السجن.
أنا شاهد عيان أن تلك السجون في تونس هي قبور أموات... فيها اعتداء على الحرية وعلى الكرامة وفيها إهانات مقصودة لكينونة الإنسان... السجناء هناك يعودون إلى طور الحيوانية والبؤس البدائي... إنهم يعاملونهم مثلما يعامل قطيع من الحيوانات.


هذه حقيقة... التعذيب ما زال قائما... تعذيب نفسي وتعذيب جسدي.. كل ذلك لان السياسيين ممن زاروا السجون لم يعملوا على إصلاح هذه المؤسسة.
أنا الآن حر طليق... لكنني حين دخلت إلى الحمام للاغتسال بالماء الساخن في رفاهية الحرية تذكرت أولئك السجناء في سجن المرناقية.... شتاء بارد قاس بلا ماء ساخن... المساكين يستحمون بالماء البارد فيصيبهم ما يصيبهم من نزلات البرد والروماتيزم وأعراض المفاصل.
كنت أراهم يحتالون على ذلك البؤس... يضعون قوارير الماء من البلاستيك في رؤوس النوافذ حتى تدفأ بأشعة الشمس... هنا ينتشر البقّ والبرغوث والجرَب والأمراض المعدية... يحدث هذا في دولة الحداثة وفي تونس ما بعد الربيع المشؤوم.


أنا سجلت احتجاجي ضد قطع الماء الساخن... فكلفت إدارة السجن سجينين لجلب برميل من الماء الساخن إلي كلما طلبت ذلك... لكن البقية لا تستحم.
يا بؤس الديمقراطية... أين كرامة الإنسان ؟... اين الرحمة عند المقدرة؟
والأعجب من ذلك أن مواضع الاستحمام لا تسع سوى 8 أنفار... وحين يتوفر الماء يدفع مائة سجين دفعة واحدة للاستحمام في ثمانية مرابض... وفي وقت قصير جدا... تدافع وزحام وخصومات وعراك وشد وقبض... أهذه أخلاقنا ؟ أهذه قيمنا ؟
خرجت من الحبس متألما... الإنسان لا يزال يمارس تجربة العبودية على أخيه الإنسان... الإنسان المسجون يتحول إلى قنّ من الاقنان وعبد خادم خاضع... يهان ويضرب أناء الليل وأطراف النهار وتداس كرامته سبا وشتما.
 أقبلت على حياة الحرية في إصرار... سأكون شوكة في خاصرة أرباب الفساد... لن أتوان لحظة واحدة عن الدفاع عن المبادئ التي تربيت عليها.
 أنا أرى وطني يغرق وارضي تباع في سوق النخاسة... أرى فسادا ينخرنا كالسوس... يأكل العظم واللحم... وما يترك فينا إلا الفتات.
 ترسخ في مخيلتي أن هذا الوطن يحتاج إلى رجال من غير أولئك الرجال الذين يحكمون... إنها طبقة سياسية خانت الوطن... وباعت المبادئ... سوف يكتب التاريخ ذلك... أن الطبقة السياسية في تونس قد باعت ذمتها للقوى الإقليمية والأجنبية وأنها باعت ما تبقى من الحرية والاستقلال إلى صندوق النقد الدولي.


 ما عاد لنا وطن... لان الوطن قد رهنوه إلى البنوك الدولية... وما تبقى من مؤسسات وطنية يريدون التفويت فيها أيضا... إنهم يبحثون عن أموال وسيولة نقدية ليس من اجل إنقاذ الشعب البائس... إنهم يبحثون عن عمولات ما بعد البيع... إنهم سماسرة النهب واللصوصية... ثم تراهم يكدسون الأموال لذريتهم من بعدهم في الجنان الضريبية.
 دخلت السجن مرفوع الرأس وخرجت منه مرفوع الرأس... كتبت ما كتبت من مقالات دفاعا عن أموال الشعب المسروقة... أنا كنت دائما أقدس وطنية العسكر في تونس لكنني لا احترم أولئك السياسيين الذين صادروا أمننا وعسكرنا وإدارتنا ومقدراتنا وثرواتنا باسم انتخابات زائفة وإعلام مدجن خاضع.


خرجت من السجن لكنني تركت فيه جزءا من ذاتي... عرفت سجناء من الرجال وأهل المروءة... وتعرفت إلى ضباط وضباط صف من أعوان السجون... كان بعضهم من حسن حظي من أهل الرفعة والشرف والوطنية.
لكنني راكمت مأساة السجن... فيه سجناء من القوادين والخونة مهمتهم مراقبتي انا... كنت اعرفهم فردا فردا... وفي السجن أعوان وضباط بلا شرف... مدير السجن كان في البدء ضدي...وضعني تحت رقابة مشددة وعاملني بسوء... الرجل كان انتهازيا... فحين اتضح أن المكيدة فشلت... تغير من لون إلى لون... فتحي الوشتاتي كان يحسب السجن مزرعة خاصة به... الرجل منح زوجته سيارة من نقليّات السجن وهي لا تعدو أن تكون سوى عون سجون برتبة عريف... أعوان السجن اخبروني بذلك... قالوا إنها ملحقة بالسجن إلا أنها لا تعمل أبدا.
يا هناه... السجن بستان يعذب فيه السجناء، يموتون جوعا وقهرا... يحرمون من الاستحمام... يضربون... يهانون... باسم القانون... ومديرهم يأكل حتى يشبع... وينعم بالموائد والمجالس والنعيم. 

 سجين الرأي محمد الحاج منصور




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire