samedi 14 janvier 2017

ذكرى 14 جانفي 2011 : قراءة في فوضى السياسة في تونس


اغتيال ثورة : 6 سنوات عجاف...


السياسة بستان الدولة، والبستان في تونس قد أجدب وصار عقيما... فبعد انهيار نظام الحكم في 14 جانفي 2011 ارتبك المشهد السياسي وتجلت أزمة سياسية خطيرة في تونس، أثرت سلبا في كل مناحي الحياة، إنه العقم والجدب السياسيين... هي الهزيمة السياسية والفشل الاقتصادي والاجتماعي... كانت تلك النخبة التي تحتكر الفعل السياسي تعاني هي ذاتها عُصابا تاريخيا واغترابا سياسيا... إنها نخبة تدّعي احتكارها للثقافة وللمعرفة وللتجربة، وهي التي تريد أن تدير شؤون الحكم، وأن تُصرّف قضايا العامة بمنطق الوصاية على الدهماء، لأن هذا الشعب في تقديرها قاصر وغافل ولمّا يبلغ رشده.


1 - هزيمة النخبة السياسية

هذه النخبة طالما دبّجت في الناس خطبا عَصْماء حول أفكار حالمة ومثالية: من قبيل الحرية والعدالة والمساواة والتعددية الحزبية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة والقبول بحق الاختلاف ومسائل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية...
خطبوا في الناس طويلا عن النظام الاقتصادي الإسلامي العادل والحلال، وحدثوا الناس عن النظام الاقتصادي الاشتراكي المدافع عن البروليتارية المسحوقة، ودافعوا عن رفاهية الحياة الجَذْلى في النظام الليبرالي... وكلها تزعم أنها قد وقعت على الحقيقة والسعادة المطلقة.
بَيْد أنّ تلك النخبة السياسية دون استثناء قد فشلت تماما في أول اختبار لها في تطبيق أفكارها وفي ترسيخ الديمقراطية سواء كانت حاكمة أم معارضة... وكل تلك الأحزاب والأفكار والإيديولوجيات كانت تدّعي أنها المعارض الموضوعي للكليّانية وللاستبداد وللسلطة القهرية وللظلم الاجتماعي زمن بن علي ... ثم ماذا ؟ بمجرد ان وصلت إلى الحكم تهاوت في الفشل... وانكشف خداعها.
ما هو السبب الجامع الذي أسقط كل هذه الحكومات بوزرائها وأحزابها؟
هل يوجد خيط رفيع يفسّر أسباب هذا الفشل السياسي ؟
منذ الاستقلال وخلال 60 عاما، تداولت 16 شخصية سياسية على منصب الوزير الأول أو رئيس الحكومة في تونس، والملفت للانتباه أن 9 وزراء أول حكموا القصبة مدة 55 عاما... وهي علامة دالة على ذلك الاستقرار السياسي في جسم الدولة زمني بورقيبة وبن علي.
 لكن وبعد 14 جانفي 2011 تاريخ الثورة، فإن 7 رؤساء حكومة حكموا ل6 سنوات فقط «بعد الثورة»... بمعدل 10 أشهر في ممارسة الحكم لكل وزير... إنه فشل سياسي يهدد استمرار الدولة واستقرارها.
 صحيح أن النظام السياسي تحول من نظام رئاسي إلى نظام برلماني. غير أن الانهيار السريع للحكومات يؤكد وجود أزمة في البنية السياسية، فالدولة لا تكاد تخرج من أزمة حتى تغرق في أزمة أخرى، إنها أزمات متعاقبة تُنبّهنا إلى خلل عميق في البِنَى السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إنه بنيان مُختلّ، يَهتزّ ويَسَّاقط ويتهدّم عند كل زَلزلَة.



2 - فشل تجربة النظام البرلماني المشوّه

حين نتأمل عمق الأزمة يتبدّى لنا أن النظام السياسي القائم ما بعد دولة «زين العابدين بن علي»، هو النظام البرلماني المعدل، وهو الذي أسس له الدستور الجديد. وهذا النظام السياسي الذي اختارته الطبقة السياسية عن وعي وتدبّر، هو نظام قابل للنقد ولمعاودة النظر... بمعنى أن الدستور الوضعي ليس فكرة دينية مقدسة، وليس لاهوتا تسلم به العامة، لقد اتضح بعد مُراكمة التجارب أن هذا النظام البرلماني هو سبب الأزمة... وهو يحتاج إلى إصلاحات عميقة.
وقد أدّى هذا النظام البرلماني المعدل والمشوّه، إلى تشتيت مركزية السلطة وحوّلها من سلطة مُجمَّعة عند رأس الدولة، إلى سلطة تتشارك فيها أحزاب متنوعة ومختلفة باسم تفعيل فكرة الديمقراطية في الممارسة السياسية. 
ثم إن القانون الانتخابي قد سمح لأحزاب صغيرة وضعيفة بالدخول إلى البرلمان والمشاركة في الحكم، وذلك باحتساب أفضل البقايا، بما أسهم في تفتيت المشهد السياسي إلى جزيئات رقيقة تشظّت معها السلطة وضعُفت الإدارة ، وساهم ذلك في تفتيت البرلمان وإضعاف دوره التشريعي، وخلق خللا واضحا في بنيته، ذلك أن كل النصوص التشريعية لم يعد بالإمكان تمريرها ب»التصويت» بل بمبدأ «التوافق»، وهو السبب الرئيسي لتعطيل العمل التشريعي للمجلس وتحويله إلى ديكور مسرحي.
هذا «التوافق» ليس سوى حيلة سياسية استنبطها البعض لرتق الخلل القائم في النظام البرلماني، المنقسم إلى جزيئات أحزاب... لقد أصبحت حيلة التوافق بين الكتل النيابية مسألة مألوفة لدى النواب... لقد حول التوافق نواب الأغلبية إلى ما يشبه القطيع الذي ينفذ تعليمات الراعي... وفي المقابل عزل «التوافق» تلك الأقلية المعارضة وانحصر دورها في الاحتجاج والصراخ دون تأثير.
كان اقتسام السلطة السياسية على قاعدة المحاصصة بين أحزاب متحالفة قد أدى أيضا إلى تشكيل حكومات ضعيفة ومُنْفرطة العِقْد، تلك الحكومات سرعان ما تسقط دون أن تقدر على إنفاذ مشاريعها. لان رئيس الحكومة لا يعدو أن يكون سوى كبير للموظفين خاضع لنفوذ الأحزاب المتحالفة... يشاركه في عمله جمع من الوزراء غير الأكفاء، والمعينين على قاعدة الولاء والنفاق السياسي والانتهازية اللّا أخلاقية.


3 - يوسف الشاهد يقود قارب الموت

كان تعيين الشاهد على راس الحكومة بلا خبرة ولا معرفة ولا رصيد دليلا على الانتحار السياسي... فشلت قبله كل الحكومات في إنقاذ البلاد من أزمتها، من حكومة «محمد الغنوشي»، وحكومة «الباجي قايد السبسي»، وحكومة «حمادي الجبالي»، وحكومة «علي العريض»، وحكومة «المهدي جمعة»، إلى حكومة «الحبيب الصيد». وصولا الى حكومة الشاهد.
لقد فشل الجميع دون ريب، إنها خيبة مريرة ومؤلمة لهذا الشعب البائس والفقير. رغم أن الطبقة السياسية التي تسيطر على السلطة لا تعترف أبدا بفشلها، وليس لها استعداد للتفريط في غنيمة الحكم، لقد جاء تعيين يوسف الشاهد تعبيرا عن إصرار تلك الأحزاب على الاستمرار في بناء حكومات اقتسام للغنيمة السياسية.
لقد أقرّ ذلك النظام البرلماني المشوّه تقسيما للسلطة يقوم على رئيس الدولة يمتلك نظريا عددا من الصلاحيات المطلقة في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع وعدد آخر من القرارات، فنشأ بالضرورة صراع وتعارض في القرارات والتصورات بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة.
كان تعيين الشاهد إيذانا بتغيير آخر في وظيفة رئيس الحكومة لقد انتقل من كبير للموظفين إلى مجرد موظف مطيع، تابع للمخزن أو للقصر.... فصادر الباجي قايد السبسي كل صلاحيات رئيس الحكومة لفائدته... وأعاد تجميع الحكم في قصر قرطاج بما يوحي بتحضير مقصود لمعاودة بناء دولة الاستبداد... غير أن السبسي لم يكن محاطا بكفاءات مقتدرة... لقد أساء الرئيس اختيار حاشيته ومستشاريه. 
كان تعيين حكومة الشاهد منذ بضعة أشهر مجرد محاولة لامتصاص غضب التونسيين إزاء فشل النظام السياسي برمته... وكان واضحا منذ البداية أن حكومة الشاهد قد غرقت في أوحال ومطبّات تدل على فشل كل الاختيارات ... فشلت في الإعداد لميزانيتها، وتصادمت مع اتحاد الشغل، ومع هيئة المحامين، وعمادة الاطباء ونقابات الأساتذة والمعلمين... وفشلت دائما في الوصول إلى حلول.
سوف تعيش حكومة الشاهد بضعة أشهر أخرى ثم ستنهار لذات الأسباب: الفشل في مواجهة أزمات الدولة... لان أسباب الفشل لا تتعلق بالكفاءة والاقتدار الإداري والسياسي وحسب، بل إنها تتعلق كذلك بمبدأ المحاصصة الحزبية وبتفتّت السلطة المركزية.



4 - الإفلاس الاقتصادي

وفي مجال الاقتصاد توسع الشرخ القائم بين أقلية تحتكر الثروات العامة وأغلبية مفقّرة ومهمّشة، هذه الرأسمالية المحلية تلك التي تمتلك ثروات فاحشة وتتحرك فيها نوازع الأنانية الفردية لا ترغب أبدا في أن تساهم في إنقاذ الاقتصاد الوطني لان الرأسمالية لا تخضع لقيم الوطنية بقدر خضوعها لقاعدة الربح الأقصى والجشع المرضي إلى مزيد من الثراء.
كانت طبقة كبار الأثرياء قبل الثورة البائسة، خاضعة لسلطة نظام بن علي بلا طموحات سياسية تنشط أساسا في المجال الرياضي وفي كرة القدم ، غير أن الثورة منحتها فرصة تاريخية لممارسة دور سياسي واسع ومؤثر وخانق، لقد تغلغلت في الأحزاب السياسية ودخلت قبة البرلمان وسيطرت على وسائل الإعلام وشكلت لوبيات ذات وزن سياسي... لقد عطلت تلك اللوبيات المالية أي إمكانية لإصلاح الاقتصاد على أسس وطنية تراعي المصالح العامة للدولة وتنتصر لفكرة العدالة في توزيع الثروات... وأدى ذلك إلى إفلاس المالية العمومية وانهارت مصادر الجباية التي تَتأتّى عادة من طبقة الأثرياء.


5 - انهيار التعليم

وفي مجال التعليم فقدت الدولة التونسية أفضل ما تفتخر به بين دول الجوار وهو التعليم الجيد والمتماسك للمعارف وللعلوم في المدارس والجامعات. حتى صرنا اليوم بلا معارف ولا علوم، توزع فيها الشهائد العلمية الزائفة على جيل جاهل وأمّيّ، يَزعُم أنه متعلم.
وأنتجت سياسة تحرير التعليم للقطاع الخاص ظاهرة جديدة هي تجارة التعليم وغايتها تحقيق الربح الأوفر... لقد تم تدمير العقل التونسي تدميرا منظما باشراف صنادي وبنوك دولية، وكل الحكومات السابقة لم تتحوّز إرادة وطنية صارمة لمعاودة بناء التعليم الذي رسمه جيل «محمود المسعدي» في المدارس والجامعات التونسية بعد الاستقلال، ذلك النظام التعليمي الذي تخرجت منه أفضل الكفاءات التونسية.



6 - فشل المنظومة الصحية

أما قطاع الصحة فقد انهار تماما وتحول من قطاع عمومي مجاني تشرف عليه الدولة ويحافظ على الصحة العامة للمجتمع، إلى قطاع للمضاربات والسمسمرة والبحث عن الربح الأقصى بكل الوسائل، صارت الصحة العامة مجالا تستبيحه الرأسمالية المتوحشة لتحقيق مزيد من الثراء، فانتشرت المصحات الخاصة في كل المدن والأحياء وصار الحق في الصحة والشفاء حكرا للأثرياء... لقد فقد الفقراء حقهم في المعالجة المجانية، وانهار قطاع الصحة العمومية وتم تخريبه في بنيته العميقة وتحولت سياسة الدولة من مجانية الصحة العامة إلى تجارة الصحة.
لقد ساهمت الاحزاب السياسية المؤثرة والفاعلة كالنهضة والنداء» بقايا التجمع» في اغتيال ثورة 14 جانفي، واضاعت فرصة تاريخية لبناء دولة وطنية تدفاع عن ثرواتها وسيادتها واستقلالها. 



6 - طموحات الغنوشي وانحطاط النهضة

عاشت حركة النهضة مخاضا حقيقيا تدور في داخلها صراعات بين الطامحين في السياسة وتعيش صراعا مع القوى السياسية التونسية.... وتنظر بحذر إلى التحولات الإقليمية.
كانت النهضة حزبا ضخما إلا أنها لم تعد كذلك، إنها تدفع ضريبة فشلها في الحكم وفشل الإسلام السياسي نهائيا كايديولوجيا في المجال العربي... فحركة النهضة لم تقدم نقدا موضوعيا لمرحلة حكمها، ولم تُعاود قراءة أخطائها... لقد تحولت إلى كتلة تبحث عن تحالفات مع سائر القوى الضاغطة سياسيا كي تحافظ على بقائها.
ولعلنا لا نعدم القول أن حركة النهضة قد خسرت قسما واسعا من المتعاطفين معها فتحولت من الحزب الأكثر شعبية في البلاد إلى مجرد حزب يتآكل طورا فطورا، ففقد زخمه الايديولوجي نهائيا، ونخرته الصراعات الداخلية، وتُقاسمته المصالح الفردية للطامحين فيه إلى السلطة.
كان راشد الغنوشي براغماتيا وصار يبحث عن مجده الشخصي كسياسي ولو على حساب المبادئ التاريخية... ففرض سيطرة مطلقة على حركة النهضة وبسط نفوذه على كل مفاصلها مستعينا في ذلك بقوته المالية فهو الممول الرئيسي للحركة... صارت النهضة أشبه بشركة أو مزرعة خاصة... وبقدر ما كان الغنوشي مدافعا عن فكرة الديمقراطية وعلى النظام البرلماني ومعارضا للنظام الرئاسي في نظام الحكم... بقدر ما كان الرجل مستبدا بكل الصلاحيات الحزبية... انه هو النهضة.


7 - انتحار السبسي وموت النداء

أما حزب نداء تونس قد غنم الحكم سريعا لكنه لم يكن قادرا على الاستمرار كحزب قوي... هو حزب يشكو فراغا إيديولوجيا في مستوى العقيدة السياسية، إنه بلا عقيدة... تلك العقيدة التي تدفع إلى العمل التطوعي وإلى التضحية وبذل الجهد.
ثم إن المراهنة على كاريزما هرمَة «للباجي قايد السبسي» إنّما هي مراهنة زائفة لأن النداء كان حزبا مصنوعا من ورق... ف»الباجي قايد السبسي» لم يكن إسما بارزا في الدولة البورقيبية وليس هو من طينة «محمد مزالي أو الهادي نويرة أو صالح بن يوسف أو أحمد المستيري» مع احترامنا للرجل، لقد كان دائما تابعا للآخرين في السياسة..
 بقي أنه نجح بعد الثورة في بعض الخطب السياسية الموجهة إلى العامّة، كانت خطبا بسيطة تجمع بين اللغة العامية واللغة الفصحى، تُضرب فيها الأمثال والحكم الشعبية مع بعض السُّخرية والهزل، نجحت تلك الخطب حين ذكّرت الناس بشخصية بورقيبة .
كان انتخاب الباجي خديعة كبرى، وتحول إلى رمز للخيبة في الضمير التونسي... الآن قد مات النداء، ولم يكن الباجي مهتما بموت حزبه لان دور النداء عنده قد انتهى.


8 - الجبهة الشعبية بلا مخالب

أما الأحزاب اليسارية خاصة تلك التي تجمعت في الجبهة الشعبية فإنها لم تحسن الاستفادة من أخطاء خصومها، ورغم مراجعتها لمواقفها من مسائل تخص الهوية والدين، غير أنها اقتصرت على مهاجمة ومُناكفة خصومها في وسائل الإعلام دون أن تقدم بدائل واقعية ومقنعة.
لقد تخلى التيار الماركسي عن ماركسيته, وأسقط جدل التاريخ «الهيجيلي» وخان طبقة «البروليتاريا» المسحوقة, وصار مدافعا عن فكرة البورجوازية الوطنية، وانهزم نهائيا في مواجهة الرأسمالية المتوحشة، بل أصبح حليفا استراتيجيا لها يقبل أموالها وعطاياها في حملته الانتخابية...ولعل الذي يُحسب لهذا اليسار هو سيطرته على النقابة العمالية وهي سيطرة تاريخية تُكسبه قوة إزاء خصومه, إضافة إلى غلبته في وسائل الإعلام.... هذا اليسار التونسي يمر بمرحلة الشيخوخة بلا بريق في المستوى الشعبي ولن يتقدم كثيرا... وسيستمر حاضرا في المشهد السياسي إلا أنه بلا أنياب.


تجار السياسة والثورة المغدورة

في هذا الزمن الرديء، اتضح أن الطبقة السياسية التونسية في أغلبها إنما هي طبقة انتهازية وفاشلة، لم تقدر على قيادة شعبها إلى الحرية والرّفاه والأمان، ولم تستطع أن تقدم بدائل وطنية تدافع عن المصالح العليا للدولة... إنها طبقة سياسية استولت على السلطة بحيلة الديمقراطية وشرعية الانتخاب وتريد أن تستمر في وَطْء الغنيمة دهرَها، وليست مستعدة للتنازل عن السلطة رغم خيبتها.
إنها تقدم في كل أزمة من أزماتها حكومة جديدة ووجوها أخرى لامتصاص آثار الخيبة، غير أن الأزمة العميقة تستمر في خنق العامة والخاصة... إنها دولة تعيش منذ 6 سنوات على الاقتراض الدولي والتسوّل على عتبات كبار البنوك... دولة ينتشر فيها كبار اللصوص في ثوب التّقاة، وتتوسع فيها طبقة الجياع والفقراء أولئك الذين يقتاتون من زبالة الأغنياء ويلبسون الرَثَّ المُرَقّع... هي دولة مريضة حتى النخاع ولا أمل لها سوى الله... إذ ما معنى أن تتبدل الحكومات كل سنة ؟ أليس هذا دليلا على فقدان الاستمرار والاستقرار والرؤية الاستراتيجية للمستقبل؟
هل بمقدور حكومة الشاهد أن تنهض بالدولة المترنحة ؟
قطعا لا... انها تخبط خبط عشواء... وسيحتاج الناس إلى مسكنات كثيرة تؤخر هزة اجتماعية قوية وأزمة اقتصادية متفاقمة، إنها تنبئ بقرب الطوفان والفوضى العارمة.
 والمؤكد هنا أن حكومة يوسف الشاهد إنما هي حكومة عمْياء بلا استراتيجية، حكومة ضعيفة ومُتردّدةً، وبالتالي سوف تعجز عن تبديل الواقع أو النهوض بإصلاحات عميقة أو تحقيق آمال الفقراء والعاطلين والشباب... إنها تبيع الكذب والأوهام.
وفي التقدير فان الطبقة السياسية التي كانت تعارض نظامي «بورقيبة وبن علي» لم تكن تمتلك أي رؤية اقتصادية واجتماعية وطنية، بدليل أن هذه الطبقة السياسية في مجملها وهي تمارس الحكم، لم تستطع أن تقدم بديلا اقتصاديا واجتماعيا يحقق العدالة الاجتماعية والرفاهية المادية ويحافظ على سيادة الدولة...إنها طبقة تحكم وتتقاسم الغنيمة والفيء والريع... ولا تمتلك رؤى مستقبلية عميقة في الاقتصاد والتعليم والصحة والتشغيل وفي القضاء وفي الأمن القومي... ما عدا أن الحلف الحاكم إنما يؤسس لدولة استبداد جديد بقيادة ظرفية ذات رأسين الباجي والغنوشي سوف تتشظّى لاحقا... فشرعوا في مصادرة حرية التعبير وتدجين الصحافة وتوظيف الإعلام المرتزق واللاّ وطني... والعمل على إخضاع القضاء للسلطة التنفيذية.
وفي الداخل يعتصر المجتمع ذاته، ويتنامى فيه شعور بالإحْباط يَنْتاب «الضمير الجمعي» لدى عموم التونسيين, لأن المغامرين في السياسة استمروا في خصام وتنازُع مَقيت، حَوَّلهم من مرتبة النخبة السياسية التي تقود المجتمع، إلى مجرد طبقة سياسية مُهْتَرئة تحتكر الفعل السياسي وتَغْرق في الفساد والمؤامرات والدسائس والفضائح والسّباب والشتائم، إلا أنها تتمتع بمنافع الحكم... ويبقى الأمل محصورا في الدور التاريخي لاتحاد الشغل... في المناورة وإحداث التوازن.
ولَسَوف نعيش في الآتي من الزمن، عَشريّة من الفوْضى والظلم والخوْف والعَمَى، باسم «انتقال ديمقراطي» زائف، يُخفي في جلبَابه محنة مجتمعات عربية بدائية، لم تدخل بعدُ إلى زمن «الحداثة»، لأنها ببساطة تسافر في زمن «الانحطاط».


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire