vendredi 26 août 2016

" سجنوني ": يا صاحبي السجن أو قصة سجن القاضي



سلسلة من المقالات بقلم القاضي المكي بنعمار يروي فيها ظروف إيقافه ومشاهداته في السجن . يهديها لصحيفة الثورة نيوز

(الحلقة الثانية).


( الأشرار لا يذهبون إلى السجن )
أعطاني السجناء ثيابا وكل ما احتاج إليه في السجن. حتى أن " الجنرال " نزع قميصه الذي كان يرتديه وناولني إياه. وأعطاني السجين (ج) لحافه ولم يتغط تلك الليلة. فكان " البق " يفتك بكل من لا يتدثر. وكان أعوان الشرطة عندما اقحموا بيتي لم يتركوني أحمل شيئا من متاعي ولم يسمح لي زميلي الذي كان على رأسهم حتى بتبديل ملابسي, فجروني في لباس النوم.... وأولئك المساجين ,  المنبوذين من المجتمع ,هم الذين سأتكئ عليهم وسيعتنون بي عندما سوف , تذوي صحتي في إضراب الجوع الكبير . لذلك بقيت أتساءل : هل صحيح أن ما يفصل بين الصالحين والأشرار هو جدران السجن ؟
كان السجن يعج بالمجرمين والقتلة .. وبالأبرياء أيضا . وهو مؤلف من خمسة عنابر في كل عنبر نحو تسعين إلى مئة سجين . ولم يك مسموحا للسجناء بالاختلاط ببعضهم  البعض إلا في الفسحة, وهي ما تسمى في لغة السجن ال"Airia " .وفيها عرفت الكثيرين منهم وتحدثت معهم . احدهم كان (ه)الرهيب. ذلك المجرم المتسلسل الذي دوخ الشرطة وأطلق عليهم الكلاب التي لقمها بفيروس "السيدا ", فيما يروون عنه في محاضرهم, حتى جمع في رصيده خمسة وسبعين عاما سجنا في سلسلة الجرائم التي اقترفها . أنا نفسي حكمت عليه غيابيا في إحدى القضايا دون أن أشاهده . فلما تعرفت عليه في السجن تبين لي انه شخص آخر عكس ما صورته لنا الشرطة .
في صباح اليوم التالي أخرجونا إلى الairia . فسالت السجين (ع) عن كيفية التعامل مع السجناء لكسب احترامهم  فقال : " امش بثقة في النفس وتعجرف .. وسيكون كل شيء على ما يرام !" . وسرعان ما سرى خبر إيقافي  سريان النار في الهشيم. فكان السجناء يشيرون إلي ويتهامسون . اغلبهم لم يصدق أن قاضيا مسجون بينهم . وأثناء طوافي بينهم تقدم مني شاب احمر الوجه كأنه خارج من حمام  فقال : " أأنت رئيس محكمة ؟ ( وكانوا يسمون كل قاض رئيس محكمة ) " . قلت " اللهم نعم ! " . قال " لقد هممت للتو أن ألطمك على وجهك " . قلت " ولم ؟ " . قال " لاني أكرهكم . انتم القضاة أرسلتم بي إلى السجن قبل أن تتثبتوا من براءتي .. وحطمتم مستقبلي " . صعدت فيه النظر فلاح لي من قسمات وجهه انه ليس من أهل الإجرام وكانت آثار النعمة بادية عليه . فناولته سيجارة ودعوته إلى الجلوس  وإخباري بقصته . كان طالبا جامعيا دفعته شهامته لان يذهب من تلقاء نفسه إلى مخفر الشرطة ليدلي بشهادته في قضية سرقة . وبما أن الشرطة قد تخلد بذمتها ملف قضية قتل ( تنفيذ إنابة ) لم يتوصلوا فيه إلى التعرف على من ألقى الحجارة على مسكن المجني عليه لإخراجه من منزله واستدراجه إلى مسرح الجريمة فقد أرسلت السماء إليهم ذلك الشاب كهدية لسد الثغرة في الملف .. سيما وانه قد تشاجر سابقا مع احد زملائهم فقال له الشرطي ما معناه : الأيام بيننا . فلما ذهب للشهادة في قضية السرقة وجد نفسه مطلوبا في قضية قتل . وأشهدت عليه الشرطة بعض المنحرفين الذين أكدوا مشاهدتهم له بصدد إلقاء الحجارة على بيت الهالك زمن حصول الواقعة. وساقوه إلى السجن . وبينما كان ذلك الشاب يحدثني ,انتابتني  نوبة من الغثيان وأردت التقيؤ . وفيما كنت أغالب نفسي , نشب شجار بالقرب منا بين سجينين احدهما كهل في الأربعين يشبه الدب والثاني فتى أمرد شادخ . قال الفتى للدب : " ما الذي تريده مني أيها اللص ؟ " . قال الدب : " أنت تعرف ما أريد .. وإذا لم تطاوعني ,  حولت حياتك في السجن إلى جحيم !" . فضربه الولد بشيء كان في يده فامسك به الدب  وأسقطه أرضا وجعل يرفسه في بطنه والولد يصيح . فتجمع عليهما أهل السجن وهرع الحراس  فاقتادوهما إلى مكتب المدير والولد يصيح : " والله لاما نباصيك يا فاجر !" . فقال لي الطالب الذي كان يحدثني عن ظلامته :" هكذا هو السجن .. يحوي جميع القذارات !" . عندها لم أتمالك نفسي.. وقذفت كل ما كان في بطني .


في تلك الليلة , وبعد صلاة العشاء ,جلست مع بعض الإخوة كان فيهم  " الحاج " و" الجنرال " و " سيدنا " والسجين (ع)  نتحدث عن الصراع بين الحق والباطل. فقال عجوز كنت لا أراه إلا مضطجعا أو محمولا على نقالة إلى الطبيب : " الحق يا وليدي مشى مع عمر بن الخطاب " . فنظرت إليه ولم أحر جوابا . فقال  سيدنا " أتدري يا سي المكي كم عمر العم مسعود اليوم ؟ " . قلت : " في الثمانين أو التسعين " . قال :" بل في العشرين " . فذهب في روعي أن سيدنا يسخر مني فسكت عنه . لكنه أردف : " هو شاب في العشرين وليس عجوزا كما تتصور " . فأجبته غاضبا :" هل أنت بصدد المزاح أو السخرية ؟ ". فاقسم انه جاد فيما يقول . فداخلني شيء من الرعب مما سمعت منه وقلت :" اتق الله يا رجل !انظر إليه .. انه كومة عظام لا حياة فيها .. وفوق ذلك.. فهو مقعد .. " . لكن من حضروا صادقوا على قول سيدنا وأكد السجناء القدامى ذلك. قالوا :" إن ذلك الشيخ الفاني جاء منذ أربعين يوما إلى السجن وهو شاب في العشرين موقوفا في قضية قتل. وفي اليوم العاشر من إيقافه ماتت أمه وهو في السجن فتحول إلى ما تراه اليوم ". فاسقط في يدي وجعلت أتفرس في الشيخ الماثل أمامي وأقول في نفسي :  " أيعقل أن ينقلب شاب غض في أربعين يوما وليلة إلى عجوز على حافة القبر !!! هذا هو الجنون بعينه .. " . وبينما كنت غارقا في أفكاري سمعت السجين (ع) ينادي : " أقم الصلاة ! ". فقلت للسجناء :" الم تصلوا منذ حين ؟ " فسكتوا عني ولم يجيبوني . كان الإمام هو السجين (م) وهو ممرض في المستشفى الجهوي بقفصه ووراءه قصة غريبة هو الآخر. صلى السجناء ركعتين ثم جلسوا في شكل حلقة وبدؤوا يحمدون الله ويثنون عليه ثم تحول ذكرهم فجأة إلى الدعاء على القضاة الذين ظلموهم,  كما قالوا. فكانوا يسمون القضاة بأسمائهم ويستنزلون عليهم دعاء تقشعر منه الجلود. وتردد في ادعيتهم اسما قاضيين قالوا إنهما أرسلا بنصفهم إلى السجن. وقد شاهدت بأم عيني في تلك الحلقة رجالا يبكون ويؤمنون على دعاء المصلين . كان أمرا فظيعا . في تلك الليلة بت ارتجف من البرد رغم أن الطقس كان حارا . وفي الصباح ,عندما أخرجونا إلى الفسحة ,أسرعت إلى الملازم (ح) فوجدته جالسا على المصطبة يدخن ويراقب السجناء كعادته . فطلبت منه أن يبلغ  المدير برغبتي في الانتقال إلى عنبر آخر قبل أن افقد عقلي . فسألني إن كان هناك من يزعجني في العنبر. قلت لا وجلست بجنبه وسألته عن الشيء الملعون الذي شاهدته ليلة البارحة . فنفث من فيه سحابة دخان و تأمل في الجدار الشاهق الماثل أمامنا ثم قال : " أما حكاية عمك مسعود فهي حقيقة ... " . وأما دعاء الشؤم فيسمونه عندهم صلاة فك الأسر " . ثم ألقى عقب السيجارة ووضع يده على كتفي وأردف : " أنت إنسان طيب.. ولذلك أرسلك الله إلى هذا المكان .. لترى ما لم يره غيرك . الأشرار لا يأتون إلى السجن " . عند ذلك جاءني احد الحراس وقال " أيها المناضل  !لديك زيارة " . وجدت الأستاذ ( س) ينتظرني وجبينه يتفصد عرقا. لقد وصل للتو . وفيما كان يشرب الماء كنت أجاهد لطرد سحابة الأفكار السوداء من راسي . قلت له : " أنت تعرف يا أستاذ أن الرحمونيين هم من أرسلوا بي إلى هذا المكان " . قال مازحا :" إذن هي ضربة رحمونية بامتياز !" . ( يتبع)



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire