lundi 22 août 2016

يا صاحبي السجن أو قصة سجن القاضي (الحلقة الأولى) : " سجنوني "




( سلسلة من المقالات بقلم القاضي المكي بنعمار يروي فيها ظروف إيقافه ومشاهداته في السجن . يهديها لصحيفة الثورة نيوز ) .

 الطريق إلى السجن 

كلمات بسيطة .. لكن تاريخية,  تلك التي قلتها لأعوان الأمن عندما أمرهم قاضي التحقيق بإنزالي إلى السجن . " نعم .. هيا بنا " . هي نفس الكلمات التي قالها أيزنهاور عندما طلب منه الحلفاء مرافقتهم إلى أوروبا لتخليصها من النازيين . نزلوا بي إلى ال"geôle" وهو عبارة عن سرداب تحت المحكمة . كان لصرير بابه رهبة في النفوس . وكانت الظلمة والسكون يزيدان المكان وحشة وخشوعا . بعد أن تعودت عيناي على العتمة , أجلت ناظري في زوايا الحبس فلاحت لي ثلاثة أشباح . سألني الشبح الجاثم قبالتي إن كان عندي سجائر؟ ناولته سيجارة فألفيته يتفحص وجهي في الظلام . وعندما أشعل اللفافة , لاحظت على وميض الولاعة انه شاب ضخم الجثة وقد غارت في وجهه جروح كالأخاديد وتورمت عيناه وانتفخت شفتاه من أثار العنف . وهجم علي الشبحان الآخران طلبا للسجائر . كان التبغ اثمن شيء لدى المساجين . سألوني عن تهمتي ( ما يسمونها عندهم بالtitre ) فأخفيت عنهم صفتي وسبب وجودي بينهم خشية أن يسخروا مني أو يبطشوا بي . وتبين أن احدهم , وهو الشاب المضروب , كان قد عنف أمه عندما دخل عليه شقيقه وأوسعه ضربا . أما الثاني فهو كهل محال في قضية نفقة . والثالث كان شابا مسطولا القي عليه القبض في السوق الأسبوعية . وبينما نحن نتحدث , إذ صاح الشاب المسطول : " أخرجوني من هنا .. فرائحة البول تملأ المكان ! " . ثم اتجه إلى الباب وراح يضربه بقبضة يده . ولج في الصياح . فاطل عليه احد أعوان الأمن ونهره قائلا : " أغلق فمك الكريه .. فالسجون في طريقهم إلى هنا " . مضت نصف ساعة أخرى قبل أن نسمع فرقعة الباب الخارجي للgeôle فعلمنا أن سيارة السجن قد وصلت . نزل الأعوان على عجل فكبلونا بالسلاسل وساقونا إلى السيارة يزجروننا ويحثوننا على المشي . كانوا قد قرنوا كل اثنين مع بعضهما . أنا قرنت مع الولد المسطول الذي ظل يغني طوال الرحلة , فكان الأعوان يضحكون عليه .



 ( الزنزانة )

يقال أن السجن هو " قمامة المجتمع ". لكني اكتشفت أنه مجتمع آخر. عالم غامض وكبير. كل ما يفصل بين هذا العالم وعالم السجن هو.. جدران شاهقة.
عندما وصلنا إلى السجن مررنا بثلاث بوابات يحرسها أعوان مسلحون فكانوا يفتشوننا عند كل بوابة. وبعرضي على القيس، تفاجأت بأن جميع أعوان السجن كانوا على علم بإيقافي، حتى إن بعضهم ندهني بكلمة الـ "مناضل". تملكني الذهول حتى أفقت على صوت عون يستدعيني لمكتب المدير. هناك ألفيت مدير السجن جالسا بمعية ضابطين و عريف. قال المدير:" الحق الحق أقول ! إنها المرة الأولى التي يرسلون فيها إلي قاضيا طيلة اثنتي عشرة سنة من الخدمة !!!". علق أحد الضابطين:" إنها لفضيحة !".وكان الضابط الآخر، وهو نقيب أشيب الرأس يخيل للناظر إليه أنه في العشرين من العمر، منشغلا بتفحص دفتر بين يديه. ودار بيننا حديث طويل تخلله عجبي من علمهم بحكايتي وإلمامهم بفساد القوم و مظالمهم. فلما سألتهم عن مصدر علمهم بفساد الجماعة قال النقيب دون أن يرفع رأسه عن الدفاتر:" إن السمكة المتعفنة لا تخفى رائحتها حتى وإن لفت بألف كيس". وعلمت فيما بعد أنهم يقرؤون الثورة نيوز. أصبحت هذه الصحيفة تلقى رواجا كبيرا بين الناس. طلب مدير السجن من العريف اصطحابي إلى الزنزانة ثم التفت إلي و قال:" اعذرنا أيها الرئيس ! إنها بطاقة إيداع ويجب تنفيذها. لكنك ما دمت مقيما بيننا فلن تهب عليك الريح الصفراء أبدا". أوصلني العريف للزنزانة وقال للكبران ( قيم الغرفة ):" تسلم هذه العهدة.. السيد الرئيس.. لا نريد أن ينقصه أي شيء.. إنها تعليمات المدير". ثم همهم في أذن القيم بشيء لم أفهمه. فأشار هذا إليه بإيماءة من رأسه وانصرف. وكان من عادة المساجين كلما قدم عليهم نزيل جديد سألوه عن تهمته. أما هؤلاء السجناء فقد تحلقوا حولي يتفرجون علي كأنما جئتهم من كوكب آخر. كانت نظراتهم مزيجا من الاستغراب والكراهية والتهيب. وقام أحدهم، تبين فيما بعد أنه رجل أخرس، فجعل يتحسسني بيده. عندئذ صعدت على "البياص" (السرير الذي يرقد عليه السجين)وقلت لهم:" أنا هنا من أجلكم ! لست قاضيا فاسدا يا إخوتي.. على العكس من ذلك.. أنا هنا لأني انتفضت على الفساد.. لقد رأيت البريء يسجن والجاني يفلت من العقاب. رأيت الحقوق تغتصب فقلت إن هذا لمنكر.. فجاؤوا بي إلى هنا. أنا هنا من أجلكم ! فالذين يصدرون أحكام التمليك هم أنفسهم من ينهبون الأراضي. والذين يسهرون على احترام القانون هم في طليعة من يخرقون القانون. ليس فلان و فلان وفلانة من أرسلوا بي إلى هذا المكان، " الماكينة " هي التي جاءت بي إلى السجن. أنا أعلم أن الكثيرين منكم سجنوا ظلما.. ولذلك جئت من أجلكم. من أجل الضعفاء. الفقراء. من أجل المواطن البسيط وحقه في قضاء شريف وعادل..". فبرقت في عيونهم بارقة التعاطف والإعجاب بعد أن كانت نظراتهم تنم عن حقد عاجز ودفين. لقد تعلمت من خطب جورج واشنطن (مؤسس الولايات المتحدة الأمريكية) أن استمالة الناس في تلمس جراحاتهم. كان ذلك الرجل يعد العبيد بالحرية، لذلك وقفوا إلى جانبه وحاربوا معه. فأردفت أقول:" لا تشكروني ! بل اشكروا الشرفاء الحقيقيين. عليكم أن تشكروا الإعلام الشريف الذي فضح الفاسدين. اشكروا جريدة الثورة نيوز التي لا تزال تقاتل.. كاللبؤة تقاتل.. لتطهير قضائكم.. وإنصافكم. وإن كان الدهر ينظر الآن لي بعيون محمرة مثل عيون القاتل وأجد نفسي مستوحشا في هذا المكان، فإن القدر سيبتسم يوما للشرفاء. قال الإمام علي:" لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه". وعند ذلك فتح باب الزنزانة ودخل الحارس فقال:" ماالذي يحصل هنا؟".


شخصيات عجيبة. وأطوار غريبة. تلك التي سأشاهدها وأعايشها في السجن. من الشيخ الأبكم الذي كان يرمز للحق الضعيف العاجز عن الكلام. إلى "بروس لي" الحارس الليلي الذي اغتصب جدته وحاول الفرار من السجن. "سيدنا": مدير المدرسة الذي يدعي الإلمام بالفقه ويفتي في كل مسألة. (ع.) المتحيل الذي لم يكن يتحدث إلا عن الفضيلة والشرف. "بنك" السجين المرح الذي كان يملأ السجن مرحا وفكاهة. (ن.) الطالب الجامعي الذي ذهب شاهدا فوجد نفسه مورطا في قضية قتل... وبين هذا وذاك تستمر رحلة البحث عن عدالة هي أشبه بالسراب.



وكيل الجمهورية محمد الخليفي


رئيسة المحكمة وسيمة الهادف

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire