mercredi 6 mai 2015

رحَل الخَال والشّاعر العربي الزّنجي , وبقيت ديدان الأرض تقتات من جثامين الشّعراء...




وكأنّ الشاعرين تداعيا إلى الرحيل...
وكأنهما تداعيا إلى الموت...
هما اللذان صارعا المرض طويلا حزما أوجاعهما وغادرا...
يوم الثلاثاء غادرنا "الخال" الصعيدي عبد الرحمن الأبنودي
ويوم الجمعة من نفس الأسبوع التحق به "الشاعر العربي الزنجي" محمد الفيتوري...
غادرانا وعلى هذه الأرض كثيرون ممن يضيقون ذرعا بالشعراء ويتمنون موتهم جميعا...كثيرون ممن يكرهون جمال القصيدة ويطلبون وأد كل دواوين الشعر في مقابر النسيان...
***
أنا الباقي على عهدي في عشق الشعراء , أنا الذي تغويني القصائد أتهم زمن العبودية الحزبية والأيديولوجية أتهم الرايات السود المرفوعة على سكاكين المتاجرين باسم الله لقطع أوصال الوطن وإقامة الحدود على فتنة القصيدة وتمردها على نواميس أمراء الطوائف الإسلاميين الذين يباركهم السلطان العثماني أو الإمبراطور الأمريكي ...
أتهمهم بطرد الشعراء , أتهمهم بقتلهم مرّات قبل موتهم...
***
الراحلان الأبنودي والفيتوري تعرضا إلى شائعات كثيرة أطلقت حول موتهما قبل أن يحزما أوجاعهما ويغادرا...
لكنهما واصلا تنفّس القصيدة , واصلا الحياة وإسباغ الجمال على هذه الحياة رغم أمنيات الموت لهما , أمنيات أكاد أجزم أن من كتبها هم ليسو من أعداء جمال القصيدة فحسب بل هم أيضا من أعداء فكرة الوحدة , الفكرة التي تتهدد مشروع تعشيشهم في شقوق وطن يفتّتونه بعد أن سرقوا ثورات الشعوب واقتسموا غنائمها فتات أرض توزعت حصصا على كل من ادعى خلافة الله...
أشاعوا موت الأبنودي قبل موته لأنّهم تمنّوا موت فكرة الوحدة العربية التي آمن بها حدّ إعلانه –يوما- حبّه لجمال عبد الناصر رغم أنه سجنه وحدّ تنبّئِه بموت السادات حين إمضاء هزيمة العرب على صفحة اتفاقية "كامب دافيد" وحدّ معارضته للرئيس الإخواني "مرسي" لما أدرك أن مصر في عهده تجري إلى الباب العالي العثماني وتتنكر إلى معينها القومي العربي
أشاعوا أمنيتهم موت الفيتوري المطرود من شريعة النميري سنة 1974 إلى الجنسية الإفريقية التي حلم بها , و حين أسقط عنه النميري الجنسية السودانية  كبر الحلم به فحمله وبحث لهما عن ملجإ في ليبيا القذافي الذي كان يرفع شعار الوحدة الإفريقية...
***       
لم تؤلم إشاعات الموت الشاعرين , لم تثر أمنيات الخلاص منهما خوفهما وكان جواب الأبنودي حين سألته إحدى المذيعات عن الشائعات الكثيرة التي تطلق حول موته نصا شعريا يعبّر عن إيمان بخلود الكلمة والفكرة تبصقان في وجه المبشّرين بعقيدة القتل إذ قال:
إذا جاك الموت يا وليدي
موت على طول
اللي تخطفوا فظلوا( أي ظلّوا) أحباب
صاحيين في القلب
كأن ما حدش غاب
واللي ماتوا حتّة حتّة
ونشفوا وهمّ حيين
حتى سلامو عليكو موش بتعدّي من برّه الأعتاب...
أمّا الفيتوري فقد أجاب فاروق شوشه الذي كتب في أفريل 2012 :
-"أنعى إليكم الفيتوري"
-  " شكرا لكل من تذكّرني"
لم يكن الفيتوري ليخشى الموت وهو الباحث عن حياة أكبر من حياته الفردية ,
هو الباحث عن وطن أكبر منه ومن السودان التي اختار التيه عنه كي لا يضيع وكي لا يتفّتت , كان وطنه الذي يحلم به هو "إفريقيا"
وقد كتب حلمه في قصيدة رؤيا
خارجاً من دمائك
تبحث عن وطن فيك
مستغرق في الدموع
وطن ربما ضعت خوفاً عليه
وأمعنت في التِّيه.كى لا يضيع
      
 لينتهي في نفس القصيدة إلى التسوية بين موته والحياة في غياب إدراكه الحلم الذي كرّس له القصيدة , ومضى في سبيله يجوب الآفاق مطارَدا غريبا فيقول في ذلك:      
خارجاً من غيابك
لا قمر في الغياب
ولا مطر في الحضور
مثلما أنت في حفلة العُرس والموت
لا شىْ إلا أنتظار مرير
وانحناء’’ حزين على حافة الشعر
في ليل هذا الشتاء الكبير
ترقب الأفق المتداخل
في أفُقٍ لم يزال عابراً في الأثير
رُبَّما لم تكن
ربما كنت في نحلة الماء
أو يرقات الجذور
ربما كان أجمل
!لو أطبقت راحتاك على باقةٍ من زهور
***
رحل الأبنودي , رحل الفيتوري وبقي من يسجّل بطولاته على جثامين الشعراء , رحلا وبقي من الإعلاميين من يُشِيح بوجه كلماته عن شاعر يُقَاد إلى زنازين الأمير وبقي من كالديدان يقتاتون من لحم الشعراء حين يموتون...
رحلا وبقي "وائل قنديل" وألف وائل ممن يصطنعون فروسيّة "دونكيشوتية" لا يكتفون بصناعة مجدهم الزائف بمحاربة الطواحين , بل يقاتلون الأموات...
أيّ شرف ؟ وأي فروسيّة هذه التي تبيح لصاحبها مقاتلة الأموات؟
الفارس وائل هذا ليبيرالي الهوى أو كذا يدعي وهو قد كان يوما من معارضي "مرسي" وصار اليوم من مناصري شرعيته
ولست معنيّا بتحّول موقفه أو بتبريره لذلك التحول , ولكنّي معني بفصاحته التي تفتحت وجرأته التي فاضت وهو ينشر مقاله المنتقد للأبنودي بتاريخ 26 أفريل 2015
تحت عنوان "مع الاعتذار لمحاسن موتاكم 'على أعمدة "العربي الجديد" .
والعربي الجديد لمن لا يعلم هو مشروع إعلامي ضُخَّت لأجله مليارات قَطرية لتأسيس جريدة ألكترونية ومجموعة قنوات فضائية بديلة عن الذراع الإعلامية الجزيرة التي شُلَّت أو كادت وفقدت ما فقدت من قوّتها وقدرة تأثيرها بعد أن سقط قناع الثورية عن وجه التخريب ومآلاته التفكيكية للمنطقة العربية ضمن مشروع الفوضى الخلاقة الصهيوأمريكي , وبعد أن سقط قناع الديمقراطية عن وجه الدعم والانتصار للإخوان والحركات الإسلامية المسلّحة (ظالمة أو مظلومة) ما ينذر بالخروج من تاريخ وجغرافيا الدولة المدنية المستبدة إلى تاريخ وجغرافيا الدويلات الدينية المستبدّة
وعَودا إلى الفارس(وائل قنديل) المنتدب في المعسكر الإعلامي القطري . الفارس الذي يقاتل الشاعر الراحل "الأبنودي" متهما إياه بأنه "شاعر سلطة" سنكتفي بالإشارة إلى أن هذا "الفارس" لم يعتلِ صهوة الكلام  ولم يمتشق سيف المقال  يوم أبصر الشاعرَ القطري "محمد بن الذيب العجمي " يقاد إلى السجن ليقضي خمس عشرة سنة في ظلمة الزنزانة جزاء قصيدة الياسمين التي يمجّد فيها "الثورة التونسية" وينتقد خلالها النظام القطري...
***
          طوبى للأبنودي , طوبى للفيتوري... فقد رحلا عن أرض لم تعد تتسع للقصيدة...رحلا عن أرض لم يعد يليق بها الجمال...رحلا وبقي على هذه الأرض من يطرد الشعراء...بقي على هذه الأرض من يشيّعهم بالجَلد...بقي على هذه الأرض "فرسان" لا شرف لهم غير مقاتلة الموتى, وحراسة السجون التي أُعِدّت للقصيدة بالصّمت...

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire