يمتلك
القاضي دستوريا السلطة الثالثة في الدولة وهوالمسؤول دون غيره على التطبيق السليم
للقانون وإنفاذه على كل المواطنين دون استثناء وحماية حقوق المتقاضين سواء في
القضايا المدنية أو قضايا الحق العام وفق مبدأ العدالة والمساواة على أساس قاعدة "القضاة
مستقلون لا سلطان عليهم غير القانون "ولئن وقع تكريس مبدأ استقلالية القضاء
في بلادنا دستوريا منذ دستور 1959 فإنه بقي مطلبا بعيد المنال على أرض الواقع ولم يقع
تطبيقه كما يجب ذلك أنالأنظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على تونس قبل ثورة 14 جانفي
وحتى بعدها لم تستسغه وكانت دائما ما تنظر للقاضي فقط على انه وسيلة من الوسائل
لبسط الهيمنة والقمع ومعاقبة كل شخص تسوّل له نفسه معارضتها أو حتى نقدها ...
وتجدر الإشارةإلىأنمبدأ
استقلالية القضاء لا يعني فقط استقلالية القاضي عن بقية السلط الأخرى في الدولة (السلطة
التنفيذية والسلطة التشريعية )بل يعني كذلك سلامة المرفق العام القضائي من الشوائب
والنقائص على مستوى البنية التحتية والعتاد والتجهيزات والموارد البشرية التي
تتسبب في تعطيل عمل القاضي وتجعله يعمل في
ظروف أقل ما يقال عنها إنها مزرية...
ففي
البلدان التي تحترم نفسها توفر الدولة لمنظوريها في كل المجالات جميع الظروف
المهنية المناسبة لتحقيق النجاعة والمردودية أمّا في بلادنا فإن القاضي الذي يعتبر
من أسمى الكوادر يجد نفسه يعمل في ظروف سيئة للغاية رغم مكانته ورغم حجم العمل
المطلوب منهوأهميته ...
عدد مهول
للقضايا مقابل قلة القضاةوالكتبة
حسب آخرالإحصائيات
الصادرة عن وزارة العدل فانتونسي من أصل خمسة يقف أمام المحاكم التونسية وقد فاق
عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم التونسية حسب إحصائيات سنة 2011-2012 مليونين
و80 ألف قضية وقد حظيت محاكم الحق العام بحوالي مليون و36 ألف قضية وهذا العدد من
القضايا يعتبر مهولا جدا بالمقارنة مع عدد القضاة المباشرين (واقفين وجالسين) الذي لم يتجاوز عددهم الجملي 1976 حسب نفس الإحصائياتهو
ما يعود بالسلب على إجراءات التقاضي التي باتت بطيئة للغاية وقد زاد في الطين بلة
العدد المحدود جدا للكتاب المختصين في الرقن والذين جلهم يعملون في إطار ما يعرف
بالحضائر مما جعل القضاة يطلبون مساعدة المحامين لرقن الأحكام التي تخرج في أغلبها
على المسودة وهوما يشكل مساسا من استقلالية القاضي وهيبته ويزيد في تعطيل المرفق
القضائي المعطل أصلا. وفي نفس السياق فإن الكثير من ممثلي السلك القضائي أكدواأن الإطار
الحجابي يكاد يكون منعدما وهو متوفر فقط بالنسبة إلى رئيس المحكمة ووكلاءالجمهورية
والوكلاءالعامين مما دفع بالقضاة الى حمل الملفات بأنفسهم ليتحول بذلك القاضي الى
حاجب ويعتبر ذلك ضربا في الصميم لهيبة القاضي والسلك القضائي بصفة عامة ...
عدم توفروالمواد
المكتبية والتجهيزات الضرورية
تكاد
المواد المكتبية تكون منعدمة بمحاكمنا وغالبية التجهيزات قديمة ومتآكلة بما فيها
الحواسيب هذا ويذكر انهمنذ سنة 2005 شرعت الدولة في برنامج تهيئة المحاكم بتمويل
من الاتحاد الأوروبي وقد كان من المفروض ضمن هذا البرنامج ربط كل المحاكم التونسية
بالشبكة العنكبوتية إلا انه للأسف لم يقع
سوى تعدية "الكوابل" وترك الأمر على ما هو عليه إلى حد كتابة هذه الأسطر
وفي نفسالبرنامج المذكور قامت الدولة بتزويد كل القضاة بحواسيب محمولة لكنها بقيت
فقط للاستعمال الشخصي بسبب عدم ربط الكوابل بشبكة الانترنت ...أما بالنسبة إلى الهواتف
الداخلية فليست موجودة بالمكاتب بل هناك عديد المحاكم بدون بدالة standardكما ان عدد الهواتف لا يتجاوز اثنين في كل محكمة مما
جعل القضاة يستعملون هواتفهم الخاصة...
بنية
تحتية مهترئة
غالبية
المحاكم التونسية بنية تحتية مهترئة نتيجة انعدام عمليات الصيانة الدورية و جدران
مشققة ودون طلاء ..ذاك هو غالبية المحاكم التونسية فإذا دخلتها
راعك ضيق المكاتب المتواضعة جدا والتي تكون أبوابها بلا أقفال في أغلب الأحيان
كما أن نوافذها مكسورة مع العلم أن اغلب تلك المكاتب بها من 2 إلى 3 قضاة رغم صغر
حجمها فعند التحريرات المكتوبة مثلا يجد القاضي نفسه في رحلة بحث عن مكتب شاغر
ليتمكن من أداء عمله أضفإلى ذلك أن غالبية المحاكم ليست مهيأة لاستقبال أصحابالإعاقات
وذوي الاحتياجات الخاصة مما يدفع القاضي عندما يكون مكتبه بأحد الطوابق العليا إلى
الهبوط إلىالأسفل والبحث عن مكتب لمقابلتهم ...
أمن شبه
منعدم
تشكو
غالبية المحاكم التونسية من انعدام الأمنإذ بالنسبة إلى القضايا الموقوفين يقع تأمين
الجلسات من طرف أعوان السجون لكن بمجرد مغادرة هؤلاء بانتهاء الجلسة تبقى قاعة
الجلسات بدون تأمين ذلك أن عدد الأمنيين القارين لحماية المحكمة قليل جدا ولا يفي
بالحاجة وفي قضايا السراح مثلا ليس هنالك امن بالمرة فمثلا عندما ترتكب جريمة أثناءالجلسة
أوإيقاف متهم في قضايا الاعتراض ليس هنالك من ينفذ الحكم كما انه عادة ما تكون سيارات
القضاة ليست مؤمنة بل في عديد المحاكم لا يوجد مربض مما يدفع القاضي لترك سيارته
خارجا عرضة مثلا للعليات الإجراميةأو لردود فعل بعضالمجرمين خاصة في بعض القضايا
الخطيرة كالإرهابية مثلا وتجدر الإشارة في
هذا السياق الى انعدام الحماية بالنسبة إلى القاضي فيما يتعلق بالقضايا ذات
الخطورة البالغة على غرار تلك التي ذكرناها آنفا حيث أن الدولة لا توفر أدنى حماية
أمنية للقضاة الذين يباشرون القضايا الخطيرة مما يجعلهم هدفا سهلا للترهيب ولردود
الفعل الانتقامية الشيءالذي يجعل منهم يعيشون دائما تحت وطأة الخوف من تلك
الردودوهوما يمس بطريقة غير مباشرة من استقلاليتهم مع العلم أن هؤلاءالقضاة في
الدول التي تحترم نفسها ترصد لهم حماية أمنيةكبيرة وليس لشخصهم فحسب بل كذلك لأولادهموآبائهموأزواجهمبالإضافةإلى
منازلهم...
القاضي
التونسي سلطة بلا امتيازات
رغم رفعة
مكانته والمسؤولية الكبيرة المنوطة بعهدته وحجم العمل اللامتناهي الغارق فيه فان
القاضي التونسي لا يتمتع بالامتيازات المقررة بالنسبة لنظرائه في الإدارة فمثلا في
الوقت الذييكون فيه القاضي من الرتبة الثالثة منظرا في الوظيفة العمومية برتبة
مدير عام في الإدارة المركزية لا نجد هذا التنظير سوى على المستوى النظري فمن
المعروف أن كل موظف في الدولة ينتقل خارج أوقات عمله لفائدة العمل ترصد له منحة
كيلومترية تتجاوز مئات الدنانير أحيانا لكن القاضي الذي يخرج في التوجه على العين
في القضايا المدنية يجد نفسه مجبرا على استقلال سيارة أجرةمكتراة من طرف المدعي في
القضية ولا يحصل على أي منحة وهوما يمس باستقلالية القاضيأمابالنسبة لقضاة التحقيق
الذين غالبا ما يدعون ليلا مع كل الظروف المناخية السيئة التوجه لمناطق نائية
لمعاينة جريمة قتل إن تعذر توفير سيارة من قبل الأجهزةالأمنية المرافقة له فانه
يستعمل سيارته الشخصية والقانون (ونقصد هنا القانون المسنون من عهد البايات)لا
يمنحه في هذه الحالةإلا 1740 فرنك وهذه المنحة إن طلبها قاضي التحقيق فهي تساوي
بمليماتنا 1740 مليم رغم انه في مواضع أخرى تم تنظير الفرنك ب240 مليم ...
يجب إذنأن
لا يبقى مبدأ استقلالية القضاء مجرد بند يدون في الدستور او شعار يرفع في الحملات
الانتخابية وفي غيرها من المناسبات بل يجب ان ينزل على ارض الواقع وليس فقط بالسعي
نحو تكريس استقلالية السلطة القضائية عن بقية السلط في الدولة بل كذلك بتحسين ظروف
عمل القاضي حتى يكون أكثر مردودية وأكثر حرية واستقلالية وأمان في تعامله مع
المتقاضين والقيام بمهمته على أكمل وجه فالتونسيون لا يريدون قضاء عادلا فحسب بل
يريدون كذلك قضاء ناجعا وسريعا...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire