لكي نعرف
علة هذا العزوف علينا أن نراجع الدوافع الجوهرية للثورة التونسية !
أكثر المحللين يختزلونها
في البطالة وغلاء الاسعار والفاقة والإحتياج و الجوع...ومن دون شك هذا له أهمية
كبيرة في جميع الثورات ولكن للتدقيق نقول ليس هو الدافع الجوهري ، فلا
توجد بطالة ولاغلاء أسعار أشد مما نحن عليه الآن ، ولكن لم تقم ثورة!
(اللهم إذا إعتبرنا الإرهاب "ثورة".....ثورة بن كيداد... صاحب
الحمار!).
فهل نسينا "
خبز وماء والتجمّع لا " شعارنا المحوري في كل الإنتفاضات!؟... وأيضا "
خبز حرية كرامة وطنية" ( الذي اُحسِن تهذيبُه فصار :شغل حرية كرامة
وطنية!)!؟....
فالذي أشعل الثورة
بحق هي الأنانية والإنتهازية والوصولية والتزلف والملق وكل أشكال العفن السلوكي
والإداري من وساطة ومحسوبية ومحابات ورشوة... إنها أدوات عمل
(أي ماعون الصنعة) الزاحفين على بطونهم دائما كالأفاعي حتى لا يسقطون! المجردين من
أي صدق في قول أو إخلاص في عمل أو أي رجولية أووطنية...قهروا العباد ونجّسوا
البلاد وحتى العقيدة أيضا، فصار الكلام البذيء و سب الدين والجلالة من
"التقاليد والنمط التونسي الذي يعتزون به"! (منكرات ووضاعات يأتيها حتى الولاة
وربما الوزراء... نعم هذه وقائع لها شهود!)..هؤلاء المتفسخون هم ابعد الناس عن
معرفة أصالة هذه البلاد وتقاليدها التي انتج حسُّها المرهف عبر القرون ألفاظًا في
منتهى الذوق المتمدن إجتنابا للكلمات التي تجرح المسامع، نذكر منها: كلمة –
سِدْ الباب- فتحولت الى - زيّنْ الباب أو سكّر الباب، من الزينة أو السُّكّر-
و -أكنسْ البيت التي تحولت الى - فرّحْ البيت- و الملح ربح، والفحم بياض، و
النار عافية...هكذا تونس المؤدبة تحولت الى مستنقع من الكلمات الوضيعة النابية،
فما أبلغ الذي قال: بورقيبة أحسن في التعليم وأساء في التربية!!...
إن هذه الإنحرافات
تمثل صيدا ثمينا لقادة المتطرفين الذين يلتقطونها وينشرونها فيما بينهم لإستمرار
إشعال جذوة نارهم التكفيرية الإرهابية الحاقدة( تماما كما يفعلون مع الشيعة في
ابسط "زلاتهم" وخصوصياتهم وتقاليدهم المحلية)...
لقد قمنا بالثورة
مندفعين لكن الآن فرضوا علينا ان نبقى متفرجين متابعين لهؤلاء السادة المثقوفين
والزعماء الوطنيين والنواب البرلمانيين ونجوم الصالونات ووزراء
التكنوقراط... (كأنّما الغاية غزو الفضاء أو
وضع فرضية لمعادلة رياضية فيزيائية ...في حين تعداد تونس كلها قد لا
يصل تعداد حي صيني اوحتى مصري! ) وهؤلاء كلهم أو جلهم ليس لديهم الإستعداد للتضحية
حتى ب"صحفة شُربة" بمائدة السفير الأمريكي..
لقد قضيّنا عمرنا في شتم الوصوليين وكل ما
سبق 14جانفي فوجدنا نسخة منهم الآن أمامنا،ويقودوننا أيضا! تاريخهم التطبيل والتصفيق لمولى
النعمة ،حتى إذا وقع عليه إنقلاب إنقلبوا بدورهم عليه متسابقين في مسيرات
التأييد لمولى النعمة الجديد، حكمتهم دائما: "الدنيا مع الواقف حتى وإن
كان بغلا"... هذا هو العفن الذي إنفجر في شكل ثورة، ثورة القهر الذي
زاد عن حده كما كتب ألبير كامو!.. قهر إستشرى وإستحكمت حلقاته
وأزكمت رائحته النتنة الأنوف وأقشعرت من رؤية معالمه الأبدان...أي بكلمة
واحدة: "تخديم المخ"! هذه الكلمة المقززة التي هي أصلا كلمة قذرة من
نتاج عصر المخلوع الذي تملّكنا فيه اليأسُ المطلقُ حتى من شعبنا
ففقدنا أي أمل في إصلاح ناهيك عن ثورة.
وحتى وسائل الإعلام ما بعد الثورة، رغم بعض
إيجابيتها التي لا تُنكر،هي ذاتها تعج بالمحاباة والإنحياز ،فكثيرا ما تغلق
أبوابَها أمام الأصوات الوطنية الشريفة ،فلا تذيع الأصوات ولا تنشر المقالات إلا
التي على مزاجها وهواها وحزبيتها الغير معلنة،ففي إحدى جرائدنا إطلعت
ُاليوم الإثنين21 جويلية مقتطف لإعلامي جاء فيه : لا بد أن نلاحظ أن هذا الإرهاب هو حقيقة عالمية
يبدو أنه ثمة من ساهم في خلقها و هو بصدد التمعّش منها. فالظاهرة تتجاوز تونس
بكثير و هي مرض مثل مرض «المافيات» إذا أصاب منطقة ما فعليها سريعا أن تعرف كيف
تجد له الترياق المناسب لتكون لها مناعة ذاتية تحصنها ضد الإرهاب. والترياق تحديدا
هو الصدق و الرجولية أو ذلك الشعار البورقيبي المسكون به والذي نطقه السبسي أكثر
من مرة: «الصدق في القول والإخلاص في العمل»....).....ورغم ما في هذه الكلمات
من معقولية، فالسؤال هو :بأي حق يقوم ،هو ومعه الصحيفة
"المستقلة"، بهذه الدعاية الإستثنائية لقصف العقول؟؟؟ أليس من حقنا أن
نشك في حصوله المسبق على مقابل لهذه الكلمات؟؟؟ خاصة وأن البيع والشراء لم تسلم
منه حتى معاهد سبر الآراء وحتى المجلس التأسيسي نفسه حيث فضائح السياحة الحزبية
؟؟؟ وهذا الذي يطبّل الآن للسبسي هو نفسه الذي سبق وإن طبّل فقال
منذ عقود : "نحن متحمسون للسابع من نوفمبر، وبيننا وبينك.
تونس يا بن علي" ... ولتبرير خدماته للمخلوع
قال بعد الثورة : (ثمة ناس اختاروا أن يكونوا ابطالا، أحترم هؤلاء
وعلى رأسهم- ......- ولكن "أنا مانحبش نولي مناضل وبطل وما نحبش السجون وموش
بالضرورة السجن للرجال أنا اخترت أن أكون كاتبا وصحافيا لا مناضلا
سياسيا")... فلمذا الآن صار مناضلا جسورا شجاعا؟ يبدو أنه قد تأكد من
مسار البلاد!!!... ومن ناحية ثانية ألم يكن السبسي يمرر السلاح القطري
والإمبريالي الى الجهات الليبية عبر وازن وذهيبة ونالوت ولكن متظاهرا بعدم
الإعتراف بالمجلس الإنتقالي! هذا السلاح الذي عاد إلينا ليقتلنا ويدمر بلادنا
ناهيك عن إنهاك إقتصادنا بإستضافة مئات الآلاف من إخواننا الليبيين المهجرين
المقهورين المتآمر عليهم ...ولقد أقر السبسي ومعه رشيد عمار بهذا علنا
بدعم "الثورة الليبية" متعللا بأن القذافي كان يريد غزو تونس
إنتقاما من الثورة( وهي أكبر كذبة عارية! فمن الذي إحتضن المخلوع ليلة
هروبه وأصهاره،هل القذافي أم السعودية وقطر!!!!!...فلمذا التزييف؟؟؟؟)..
يشعلون النيران ويتسالون عن مصادر الدخان!!!...
وفي المحصلة ،مذا وجد الشعب؟! إنه يصح فيه المثل
القائل:" هرب من القاطر جاء تحت الميزاب"! ... فبعد ثلاث سنوات من العفن
السياسي الحزبي ( وحتى التكنوقراطي من بعضهم و...بعضهن !) إستفاق الشعب
الكريم من أوهامه فأدرك انه كان يطارد خيط دخان وأن الثورة فعلا يقوم بها
الفدائيون فيستفيد منها الإنتهازيون، فإقتنع بأنه ما حكّ ظهرك مثل ظفرك وانّ
الإنطواء والإنكفاء على الذات حكمة!...وهكذا صار أكثر المواطنين غير مستعدين
لأي تضحية مهما كانت بسيطة ومنها مجرد التسجيل للإنتخابات فمابالك بالوقوف
ساعات في طوابير كحبات المسبحة أمام صناديق هي في الحقيقة مدارج يصل بها
الشرهون الأنانيون الى أعلى المناصب ،هذا هو بكل بساطة
سبب العزوف!
الرئيس التوافقي
بداية نقول: مبادرة النهضة هذه سبقها
إليها غيرها مرارا وتكرارا ، وقد كان ذلك منذ إنتصار الثورة
وبعدها أيضا ومنها المقال:- برلمان وطني توافقي- و المقال- لا يمكن حمل
الزرافة من أذنيها-....
من دون شك هذا مقترح
سليم وفي محله تماما، لكن أحيانا يكون سبب التعطيل نقصٌ طفيفٌ...فمثلا الصلاة للغرب في غير إتجاه القبلة لا
تجوز!وقياسا على هذا نقول إنّ التعديل الطفيف المطلوب لهذه المبادرة يتمثل في
إشتراط عــــدم تحـــزّب الرئيس التوافقي المراد تعيينُه،والإستهانة بهذا
يثير كل الشكوك في النوايا الخفية من هذه المبادرة، لأنه عجيب ومحير فعلا
أن تفاجئنا اليوم النهضة،وهي أكبر الأحزاب، بمقترح
"رئيس توافقي" حتى من أحزاب صغيرة وحتى من أحزاب كانت بالأمس القريب
تريد عزلهم بمزاعم "تحصين الثورة" خاصة بإعتبارالشخصيات "التوافقية" التي
يلمّحون إليها، الى درجة قال المشككون وراء هذه
المبادرة أيادي أجنبية خفية!.. وفوق
هذا، لمذا لم تقترح النهضة نفس التوافق في الإنتخابات التشريعية،وهي أهم بمئة
مرة؟؟؟ والجواب: لأنها لا تستبعد فوزها بها، وحتى إن لم تفز بها فنتائجها
دائما نسبية وليست(1أو0) كما في الرئاسية!
الأرجح هو انّ النهضة بعد "نصر
أكتوبر الكبير" تكونت لديها حساسية من الهزيمة فصارت كلما تأكدت
منها تبادر الى هزيمة نفسها بنفسها فتنهي المبارات بتسجيل هدف في مرماها الخاص
بدلا من أن ترى غيرها يسجله رأسية أو ركنية أو حتى "عظمة"..!
ونلاحظ هذا في محاولتها الإيهام بتنازلها عن الحكم طوعا وحبا في
"الوفاق" وليس كرها! وكذلك الدستور الذي تدعي كتابته ، في حين لو
تركوها منفردة لكتبت دستورا لا يختلف كثيرا عن دستورحزب التحرير!...
هذه الألاعيب تحدُثُ أحيانا حتى في الشطرنج
حين يفقد أحد المتنافسين قطعه المهمة ولا يبقى له سوى بيادق متناثرة غير
مجدية رغم كثرتها ،فيبادر الى التموضع مكان منافسه يقترح عليه مذا يمكنه أن يلعب
برخّه المرعب...وقد يستنبط أحيانا فكرة ذكية لا تخطر ببال المنافس ذاته الذي يبقى
مشدوها ! إنها آخر صيحة "لإجتناب" الهزيمة وكسب "النصر" !...
ولكن كل ما سبق لا
يمكن أن يشكك في أهمية هذه المبادرة!.. وأي إستخفاف بها يُعد إستخفافا بالبلاد وعبثا صبيانيا لن تكون نتيجته سوى الإفلاس وربما
الصوملة!!...فالوباء الذي إستشرى ،حتى وإن خبا مؤقتا بسبب الحكومة المحايدة
الحالية ،سوف يعود مجددا وعلى أشده بعد الإنتخابات المزعومة القادمة في شكل صراعات
واضرابات واستهانة بالإدارات والمرافق العمومية وتزايد جرائم الحق العام من
سرقة و"براكاجات" وتهريب ومخدرات وقتل واغتصابات وانتحارات شنيعة وصولا
الى التخريب السري والارهاب ومنه جريمة هذا الأسبوع النوعية التي تنذر بما
هو أسوأ!... هذا ناهيك عن أن غياب التهدئة والوفاق سيزيد المناخ العام
تعفّنا بين غلو رجعي وميوعة متفرنجة بإسم
"الحرية"...مناخ تنعدم فيه العاطفة والرابطة الوطنية فيصير الجميع غرباء
عن الجميع مقهورين في مستنقع آسن من التوترات، وهو مايدفع بكل إنسان عاقل
وجاد الى الطعن في جدوى الديمقراطية ذاتها( الديمقراطية الليبرالية!) لمجتمعاتنا
الإسلامية، ولا نستبعد أن تكون خاتمته "الندم"
على المخلوع وأصهاره الذين لم يكن نهبهم من الناتج الخام السنوي
ليتجاوز1 أو2 % "فحسب" بينما هذه العراقيل لن يقل ضررها عن 10او20%
في أخف التقديرات !(علما وأن السرقة ،بحسب بعض التعريفات ،هي مجرد "نقل غير
مشروع للمال من جيب الى جيب ". أي مجرد تحويل مجرى النهر من حقل
الى حقل لكن بطريق غير مشروع، بينما التخريب هو بكل تأكيد تحويل مجرى النهر
الــــى الـــبحر!) وهو ما يفسر مسلسل التداين الذي لم يتوقف، رغم أن الحكومات
المتعاقبة لم ترث دولة على شاكلة ليبيا أو سوريا ، بل دولة قائمة الذات وجل
إدارتها تشتغل حتى يوم سقوط المخلوع!
ختاما نقول: إنه لا مناص
من هذه المبادرة لتجنب المغالبة التي لن تحمد عاقبتها!.. فالواجب يدفع بجميع
الأحزاب الوطنية والمجتمع المدني ،وعلى رأسهم الرباعي ، للتوافق حول
عدد من الشخصيات المحايدة المنزّهــــين عن أي شبهة حزبية ،ولهم طبعا الحد
الأدنى من الشعبية حتى يمكن للشعب إنتخابهم، فنكون قد جمعنا بين فضيلتين،فضيلة الوفاق و
فضيلة عدم حرمان الشعب من اختيار رئيسه.
رائف بن حميدة .(استاذ مساعد سابقا.ولاية قبلي)
هاتف:96001078.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire