هل أصاب عبد الستار بن موسى حيث أخطأ ؟
الخطأ الذي جعل من الحوار حمارا...الخطأ الذي انتزع
الضحكة من بعض السياسيين الذين لم نعرفهم إلاّ متجهّمين حتّى خِلنا أنّ البسمة
لم تعرف يوما إلى وجوههم سبيلا فما بالك إن رأيتهم يقهقهون في مثل ذلك
"اليوم الجلل" يوم افتتاح الحوار الوطني الذي استحال بزلّة لسان حمارا ؟
كم يذكّرني ساستنا بقصّة الجاحظ عن قاضي البصرة مدّعي الوقار والتزمّت , المزهوّ
بنفسه حتى إنه إذا لازم مجلسه لا يتحرّك ولا يغادره إلاّ للصّلاة دون أن يكلّف
نفسه مشقّة الوضوء من صلاة الفجر إلى العشاء أو أن يذهب إلى المسجد القريب من داره
فهو ك"الصخرة المنصوبة"...فهو يحسب كثرة الحركه مذهبة لهيبته وهو الذي
جاء على لسان الجاحظ في وصفه "لم ير الناس حاكما قط ولا زميتا ولا ركينا حكيما
ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك" ...
إلى أن حطّ ذباب على وجهه متنقلا بين أنفه وأرنبة أذنه
ومؤق عينه فراح القاضي يلوّح بيده في حركة متواترة أفقدته ماكان يتكلّف من الوقار
والتزمت...
ومغزى قصة الجاحظ أن يثبت ضعف الإنسان وتهاوي جبروته
أمام أضعف خلقه ولمّا تأكّد القاضي أنّ الذباب كشف عجزه وتأكّد أنّ القوم يرمقون
ما بدر منه اعتذر إليهم بقوله "إن الذباب ألح من الخنفساء وأزهى من
الغراب وان الانسان إذا ازدهى بنفسه غلبه على أمره أضعف المخلوقات"...
كذا حظينا برؤية الفرقاء السياسيين وقد سقطت عن وجوههم
ملامح الحزم والشدّة والصّرامة... التي قدموا بها إلى الحوار فإذا حوارهم حمار
وإذا تجهّمهم ضحك وابتسام
ولكم وددت أن أسأل كلّ واحد منهم عمّـا أضحكه , ثمّ كم
وددت أن أسألهم
هل
تراهم اتّعظوا واستخلصوا الدرس , درس التخلّص من الزّهو بالنفس والاعتداد بالحزب
والتعصّب إلى الرأي والفكرة ؟
أتراهم يبدؤون الحوار كشركاء في صناعة مصير الوطن
يتفاعلون ويتوافقون ؟ أم تراهم يتواجهون ويتراجمون ويلازمون مواقعهم كما
لازمه قاضي البصرة "صخرة منصوبة" لا تتزحزح؟
وزلّة لسان رئيس الرّابطة التونسية لحقوق الإنسان وإن
صارت لدى عامّة التونسيين وخاصتهم في مجالسهم وعلى مواقع التواصل الاجتماعي مدعاة
للتندّر و"السخرية السوداء" التي تعالج الوجيعة بالهزء والابتسام بديلا
عن الدّمع والبكاء لثورة صرنا نخشى أن نضيّعها وأن نبدّد قيمها ومبادئها وشعاراتها
التي رفعها الشعب و"ألاّ نحافظ عليها كما الرّجال" - وهذه العبارة
الأخيرة مقتبسة من قول "عائشة الحرّة" والدة "الغالب بالله"
ملك غرناطة الّذي ضيّع مملكته وسلّمها "لفرناندو وإيزابيل" فقالت له
والدته
"ابك
كالنّساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال" وسجّلت الأسطورة زفرته الأخيرة حيث
سمّي المكان الذي ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة "زفرة العربي
الأخير"
ولسنا نرى قتامة سخرية التونسيين اليوم إلاّ حمّالة خوف
وغضب وحزن من أن يكون هذا الحوار آخر مكان نلقي منه نظرتنا الأخيرة على ثورتنا ولا
نسجّل بعدها إلاّ "زفرة" على ما ضيّعت النخبة من أحلام الشعب بالتحرر
والكرامة والتشغيل جرّاء الاستقطاب الأيديولوجي والصّراعات الحزبية
والمصلحية ...
لقد أصاب عبد الستار بن موسى حيث أخطأ فإن تصفّحت كتب
التراث ستجود عليك بجوامع مشتركة بين الحمار والحوار إن أنت أعملت آلة التّأويل
والمقارنة ولنأخذ على ذلك أمثلة
1-ماورد في
رسائل إخوان الصّفا من شكوى الحيوان من جور الإنسان حيث جاء على لسان البغل وهو
يشتكي حاله إلى الملك
" :
لورأيتنا أيها الملك، ونحن أسارى في أيدي بني آدم، والشِّكال في أرجلنا، واللُّجم
في أفواهنا .وسفهاء الإنس من السّاسة. : وسفهاء
والركّابة فوق ذلك، وبأيديهم العِصيُّ والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا،
ويشتموننا بأقبح ما يقدِرون عليه من الشتم والفحشاء بحنق وغيظ وسفاهة، حتى إنه
ربما بلغ به السَّفَه منهم أن شتِموا أنفسهم وأخواتهم وأُمهاتهم وبناتهم، "
ويورد البغل بعد ذلك صورة من القول البذيء الذي يعتمد فيه الحمير.
كثر هم الذين امتطوا الحوار اليوم وهم له شاتمون وكثر هم
الذين امتطوا الحوار وبأيديهم المقارع يطلبون من الحوار ومن حاورهم أن يسمعهم
ويطيعهم وهم لا يسمعون...
نرى الحوار واحدا والسّبل شتّى... والرّاكبون ساسة
يتجاذبون قياده ولكلّ فريق حزبي غاية يطلبها فهل رأيتم حمارا يسير في أكثر من
ثنيّة في نفس الآن ؟ فكيف للحوار أن يسير في طريق استقالة الحكومة وفي طريق
اللاّاستقالة ؟ وكيف له أن يمضي في طريق إنهاء أعمال المجلس التّأسيسي والاستعانة
بخبراء وفي درب سيادة قرار المجلس التّأسيسي يحلّ نفسه متى شاء ؟
يقول البعض إنّ خارطة الطريق رسمها الرّعاة ولا مناص لمن
امتطى الحوار أن يقبل بالدّرب المرسوم لكنّ ثمّة من رفض امتطاء الحوار أو بالأحرى
رفض الالتزام بطريقه "كالمؤتمر من أجل الجمهورية" –مثلا لا خصرا- وثمّة
من أمضى على خارطة الطريق وأثقل إمضاءه بشرط يسمح له باتّخاذ مسالك ومسارب
أخرى إن أوغل في الطريق غير التي حدّدها الرعاة وهذا ما حاولت فعله
"حركة النهضة" حين أثقل "إِمامُها" إمضاءه بعبارة" نمضي
على الاتفاق على قاعدته " هذا فضلا عن الاختلاف بين إمضاء قيادتها على الحوار
وبين البيان الذي أصدره مصدر الشورى.
فأي طريق سيسلك الحوار؟ ما رسمه الرّعاة؟ أو ما
خطّط له الحاكمون بزمام السلطان ؟ أم يخرج عنه المعارضون ؟أم تتوه بنا السبل
؟.
2-ومن
الجوامع المشتركة بين الحوار الوطني والحمار كما ورد ذكره في التراث ما سار على
ألسنة العرب "وقف حمار الشيخ في العقبة " وأمام الحوار الوطني اليوم
عقبة كأداء دونها عقبات يخشى أن يحرن الحوار فتتوقّف مسيرة الإنقاذ والخلاص من
المأزق السياسي الذي تعيشه البلاد ومن أعسر العقبات التي ستواجه الحوار و
المتحاورين موافقة حكومة "علي العريض" على الاستقالة في أمد معلوم ورفض
التأسيسي باسم سيادته أن يستعين بلجنة خبراء لإنهاء الدستور والالتزام بحلّ نفسه
في ميقات بعينه
أفيقف الحوار عند إحدى العقبات أم يجد لها ممتطوه تذليلا
؟
3-ومن الجوامع المشتركة أيضا بين الحوار والحمار ما عرفناه عن "صاحب
الحمار" الثائر على الفاطميين الذي يروى أنه سمّي كذلك لأنه كان يجول البلاد
على حمار ناشرا دعوته ويروى أنه اتخذ الحمار مطيّة لأنّه لم يكن يحسن ركوب الخيل
فهل ترى الساسة في تونس قد ضيّعوا علينا سنتين من عمر
الفترة الانتقالية لأنّهم لم يكونوا فرسانا بالقدر الكافي كي يقبلوا تقديم
تنازلات للتّشارك والتوافق في إدارة هذه المرحلة وهاهم يرتضون امتطاء
الحوار مرغمين –بفعل إرادة خارجية ربّما-
فهل يبلغون بالحوار المفروض ما لم يبلغوه زمن كان بوسعهم
أن يتحلّوا بأخلاق الفرسان فيؤثروا مصلحة الوطن والشعب الذي وهبهم الحرية وفوّضهم
لتشييد مصير أفضل فأخذوا صوته وضيّعوا أحلامه -أو كادوا- بتغليبهم الاستقطاب
الأيديولوجي والحزبي وتغلّبه عليهم
وأخذت بعضهم العزّة بالنّصر الانتخابي ولم يكن لهم ما
للفرسان من تواضع وأصيب بعضهم بانتكاس المهزومين وعجزهم ولم يكن لهم ما للفرسان من
إصرار وعزم
فهل يبلغون اليوم بالحوار أفضل مما بلغه "ابن كداد
اليفرني" بحماره الذي نشر دعوته من على ظهره إلاّ أنّه و وإن كاد ينتصر على
الفاطميين فقد ذهبت ريحه وتكسرت أحلامه ويقال إنّ من أسباب هزيمته التشتت والشقاق
الذي أصاب القبائل الموالية له وخذلانها له في مناسبات عديدة
فعسى الحوار
الوطني يجمع ويوفّق الفرقاء حتى لا يخذلوا وطنا لم يعد يحتمل صراعاتهم
وتعصّبهم الحزبيّ الذي إن استمرّ أذهب ريح الثورة وريح الدّولة.
-فتحي البوزيدي-
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire