vendredi 7 octobre 2016

يوميات معتقل المرناقية: حرية الصحافة واستبداد القضاء الاستثنائي


قاضي العسكر... وسيف الحجّاج


الحجاج بن يوسف الثقفيّ... كان يحكم في الناس بالظِّنّة... فأرهب أهل العراق وأذهب سيفه فيهم قتلا وتهجيرا وتعذيبا... فخطب فيهم يوما خطبته الشهيرة:" يا أهل العراق إني قد رأيت رؤوسا قد أينعت وحان قطافها."... وكان واليا ظالما، هو القاضي الذي يحكم في الناس بالهوى، وهو الجلاد صاحب السلطان وقاطع الرؤوس... ثم مات الرجل موتة مذلة، وذهب ذكره في التاريخ رمزا للحاكم الجائر.
 وفي تونس اليوم أرض افريقية زمن الحجاج، يولد حُجيّج صغير تابع وخاضع للسلطة السياسية ... يكبر الآن في وطني، يطل برأسه، هو مشروع حجاج جديد ... يولد في رحم قضاء العسكر يظلم الناس باسم القانون... فاليوم تظلم الثورة نيوز... أما غدا فإن الحجيّج سوف يكبر فيصير حجّاجا يغتال الحرية.
 كنت أنا مستعدا للأسوأ وهو الاغتيال، فقد كان التهديدات ترسل كل حين وان... خاصة من اللوبيات المالية تلك التي تقتات من دم الشعب.
 وطأت قدماي مقر المحكمة العسكرية بتونس، تذكرت حينها مقالات عدة دونتها في معارضة هذا القضاء الاستثنائي... بناية فخمة يحرسها الجند، وكان انضباط العسكر يبهرني منذ كنت صغيرا يافعا في الاحياء العسكرية التي تربيت فيها.
 عشت طفولتي كلها داخل الثكنات العسكرية رفقة ابي الضابط السامي بالجيش... علمني مبادئ الرجولة والكرامة والشرف، وعلمني فكرة الوطنية ومحاربة الاستعمار... وان العسكر هو متراس الوطن... وحين نجحت في البكالوريا بداية الثمانينات كاد أبي أن يقنعني بمواصلة الدراسة بالأكاديمية العسكرية، بيد أنني اخترت وجهة أخرى وهي الهندسة الكهربائية.
 كنت رفقة المحامين، وكانوا مطمئنين إلى مركزي القانوني باعتبار أن الاستدعاء قد وجه إليّ باعتباري شاهدا في قضايا تتعلق بنشر ملفات تخص شراءات وصفقات أنجزتها وزارة الدفاع في الأسلحة والملابس.


 دخلنا إلى مكتب القاضي "الصحبي عطية"، وهو ضابط مدني التكوين، إلا انه يرتدي بزة عسكرية برتبة مقدم ... وكنت بعد الثورة قد كتبت مقالات عدة عن ضعف تكوين بعض القضاة العسكريين الذين لا يفقهون شيئا في العسكريات فقاموا بإحالة مئات العسكريين إلى القضاء بتهمة القتل العمد... أولئك الجند والضباط الذين حموا الوطن من الانهيار يوم سقط النظام كافأهم القضاء العسكري بأحكام جائرة... دافعت أنا وقتها بقلمي عن شرفاء الجيش...الذين دفعتهم الغيرة والشرف وقانون الطوارئ لنجدة تونس.
 كان قاضي التحقيق العسكري مرتبكا، ضعيف البديهة ، بلا كاريزما، بمجرد دخولي رفقة المحامين تردد ونظر يمنة ويسرة ، إلى الجدران كأنه يبحث عن شيء ضائع، والمسكين لم يضع شيئا سوى العدالة.
 سألنا القاضي :" هل أفتح المكيف".
 نظر المحامون إليّ في استغراب، كان الطقس صباح يوم الثالث من أكتوبر معتدلا، أجبته:" لا حاجة إلى ذلك".
 كان هو سؤال الحائر من أين يبدأ.
 حين قرأ لائحة الاتهام البائسة تلك التي حبّرها ، طلب منه المحامي "ناصر" مده بنص اللائحة، كانت خطيئة قانونية وفضيحة أخلاقية... تضمنت اللائحة الاستماع إلى صاحب جريدة الثورة نيوز كشاهد في خصوص جملة من المقالات الصحفية الاستقصائية...


 قرأ المحامي اللائحة وسأل قاضينا:" يا قاضينا قد أخطأت الرؤيا، وخرقت قواعد إجراءات التحقيق... ليس لك الحق أن تغير المركز القانوني للمنوب من شاهد إلى متهم قبل أن تسمع الشاهد... هل استمعت إلى الشاهد يا قاضي العسكر؟"
 ارتبك القاضي لملاحظة المحامي، كان تنبيها إلى خرق صريح في إجراءات التحقيق.... وأضاف المحامي:" نتوقف هنا... ليس لك الحق في تغيير المركز القانوني للمنوب قبل أن تشرع في سماعه ." كانت ملاحظة في عمق القانون بما يتعلق بإجراءات التحقيق.
 بهت لسان الدفاع ؟ ما الذي يفعله السيد القاضي المحترف في القانون، انه يتجاوز ضوابط المجلة القانونية.
 دار المكان في سديم العدم، القانون استوى مع العدم... وأصر قاضينا على موقفه:" أنا الحاكم هنا ... أنا القانون... أفعل ما أريد... ومتى أريد... أنا القاضي العسكري... هل تعلمون يا سادة أنني قاضي الزمان ... ووحيد قرنه."
 انسحب لسان الدفاع من حضرة القاضي العادل جدا والمنصف والأريب... ورفعوا شكواهم إلى قاضي قضاة العسكر...
 يا مدير القضاء ... وأنت من أنت... يا حاكم القانون ... أين تاه القانون ؟... أتحكمون بالعدل ؟ أم تحكمون بالهوى؟
 اختبأت قاضية العسكر في مكتبها... وطال اجتماعها ... وانتظر المحامون أن تنظر في ما تأوّلوه في القانون... هل يجوز للقاضي أن يغير المركز القانوني للمتهم قبل سماعه؟ أم هل هو عَوْد إلى سياسة التعليمات ؟... أُسجن هذا ... واحبس ذاك.
 قاضية قضاة العسكر لا تجيب طلبا ولا تسمع، لأنها حريصة جدا على استقلال القاضي... والقضاء مستقل عن السلطة فكيف لها أن تنظر في شكايتنا.

 بعد ساعة ونيف... عدنا إلى سِيدْنا "الصحبي" حبوًا.... والرجل يحمل اسم الصحابة مصغرا... وليس الصحبي سوى "أبي زمعة البلوي" صاحب الرسول الاكرم ... وقد هام أهل افريقية بذكره وذكر عدالته وتقواه.... ولن يكون قاضينا إلا نزيها عادلا تقيا شبيها بالصحبي دفين القيروان.
كان قاضينا مرتبكا ومتسرعا... ما الذي طرأ على الرجل ... انه في غصرات الوحي، وحي القانون... :" يا قاضينا هات لائحتك."
 فكّر القاضي كيف فكّر، وقدّر كيف قدّر، وسدر وأزبد... حتى تعرّق منه الجبين... وغمغم كمثل الوحي يأتيه.... أتعلمون لِمَ؟ لأنه يخاف الله في السرّ والعلن، ويأبى ضميره أبدا، أن يوقع في الناس ظلما.
 وشرع يسرد القضايا الخمس، قضية قضية، وعددا عددا... فإذا جاء إلى خامستها، بكى سترا، وولول رخوا... وانتصب انتصاب كسرى في عرشه... وأذّن فينا:" قررنا اصدار بطاقة إيداع في حق الصحفي محمد الحاج منصور طبق الفصول التالية...."
 يا عماك الله... أتكذبنا القانون... وأنت قاضي التعليمات...
 في بناية العسكر مازال القاضي تابعا وخاضعا للسلطة السياسية ، ينفذ طلباتها في مذلة وصغار... لكن المثير للشفقة أن سيدهم هناك ليس سوى بن تيشة وشوقي طبيب.



 كنت ادرك ان القاضي المسكين مأمور يريد المحافظة على منصبه، ويريد ترقية... ويريد سيارة وبنزيم...وهو يعلم يقينا انه مطالب بإيقافي لأي سبب كان اشباعا لرغبات شوفينيا الحكم ونخّاسي السياسة...
 هل تعلمون سادتي موضوع التهمة؟ لقد نشرنا في ما نشرنا بيانا صادرا عن جمعية قدماء العسكريين وقعه عدد من جنرالات الجيش السابقين ووجهوه إلى رئيس الدولة ورئيس الحكومة وبعض منظمات المجتمع المدني نبهوا فيه من مخاطر وتداعيات دخول الوعاظ الدينيين إلى الثكنات."
 وحين اصدر القاضي بطاقته السوداء، ضجّ المحامون لهذا الخرق الفاضح للقانون ولإجراءات التحقيق... كان انحرافا بالقانون لم يحدث زمن استبداد بن علي... كان الرئيس الأسبق إذا ما عزم على سجن معارض له، أعد له ملفا قضائيا متين الحبك، دقيق السبك، مطرّزا تطريز خبير في القانون...
 غير أن صاحبنا قد غرق في بحر القانون، وما درى له سبيلا... انه يسير سير العاثر في مطبّات القانون... وهو يسرع عجلا إلى إنفاذ ما طلب منه إنفاذ الخائف أن يقطع رزقه.
 سلمت هواتفي وأغراضي الى المحامي جلال... وخاطبت القاضي:" لست سارقا ولا مرتشيا ولا قاتلا ولا إرهابيا... أنا لا أخاف إلا الله... في السجن ستخافونني أكثر... والجريدة سوف تستمر... أنت تحبسني لأجل رأي كتبته... قبل أن تسمعني.... يا قاضينا القانون يقيدك بمرسوم الصحافة... وأنت تخرق المرسوم المنظم لمهنة الصحافة... يعني انك لا تعترف بحرية التعبير وحرية الكتابة... أنت الآن قد حشرت القضاء العسكري الاستثنائي في صراعات سياسية ... سأشكوك إلى قاضي السماء... وسأوجعك بقلمي."
 نشب خلاف حامي بين المحامين والقاضي لخرقه للإجراءات... وقد ذهب في ظنه انه يتحوّز مفاتيح السجن دون قانون وازع... بل علم في خلده انه هو السجان والجلاد والغافر والتواب والحامي والرقيب... بلا حسيب.
 كنت اعلم أن الصحيفة الاستقصائية الثورة نيوز قد أصبحت ثقلا مؤرقا ومفزعا لبعض اللوبيات من قوى الشر، ومافيات الفساد تلك التي تمتصّ دماء الشعب البائس... وقد طال الصراع بيني وبينهم... وها إن الأحزاب قد جمعوا لنا على الفوت إلى الصحيفة .... فجمعوا زبانيتهم وأسلحتهم ... من تُبّع، ولُكع، ورُقع... وهم يشحذون سكاكين الاستبداد لإسكات صوت الحرية .
 ولم يعلم الأبالسة من شياطين الانس أنني شريف ابن شريف... أقاتل الدهر بالكلمة... وأقطر من دمي زرعا للحرية...



 وكنت أعلم يقينا ذلك الحلف الذي يقوده شوقي طبيب، فقد كنت اقتفي اثر صفقاته...وسمسرته في القضايا خاصة قضايا الفساد... يدعمه نور الدين بن تيشة من قصر قرطاج، عراب الفساد، بشعره الرطب، وغرّته النسائية... ومن هناك يتحرك جربوع صغير ومجرم دنيء هو اعلامي معروف قبيح الذات بعد أن كشفت جريدتنا تورطه في قضية سرقة واحتجاز ابنة قاض والسطو على مستندات احد القضايا، ومشاركته في حرق ابتدائية تونس2.
 أتاني جنديان من الشرطة العسكرية... قال لي احده:" الجميع يقرا جريدتك ... يخفيها داخل المكتب وفي طيات ثيابه، كلهم منافقون... يخافون جراة الجريدة ...هل تعلم أن كبار المسؤولين يشترونها خاصة منهم الفاسدون خوفا من ان تنشر غسيلهم...
 أجبته:" أنا الذي دافعت عن الجيش دهرا... وأنا الذي ناصرت العسكريين حين ظلمهم قضاء العسكر.... وكنت في ما سبق من سنوات 2011 و2012 و2013 قد حبّرت مقالات ضد إحالة العسكريين الذين خرجوا لحماية الوطن أثناء الثورة المغدورة.
زمنها فضحنا خبر القاضي حسني العبروقي وظلمه للجنود والضباط ... وكان ما كان.
 وكنت قد واجهت وقتها "مروان بوقرة" مدير قضاء العسكر، لأجل المساكين من الجنود الذين أحالتهم المحكمة العسكرية بتهمة حماية الوطن بقانون الطوارئ ونشرنا مقالات تدافع عنهم وعن الجيش الوطني.
 وكنت أفصل تماما بين الجيش وبين مؤسسة القضاء العسكري وكنت قد نشرت مقالا يعارض القضاء الاستثنائي ويدعو إلى التاسيس لقضاء موحد وعادل ... واغتاض القوم من رأيي... والآن هذا القضاء الاستثنائي هو الذي يستخدمه البعض من اجل قمع الحريات ...
 تداعت في مخيلتي مشاهد متداخلة ومرت من أمامي مشهد صدام وهو يحاكم وصورة عمر المختار ... وصور أسرى فلسطين في سجون الاحتلال.
الموت لإسرائيل...الموت لإسرائيل...
تذكرتها الآن ... هذا الشعار رفعه أحرار فلسطين ولبنان في مواجهة الظلم الصهيوني.... كان شعار الحماسة في مواجهة الطغيان والقهر ...سأختار لكم وصفا يليق بظلمكم ... في المرة الآتية.
 اصطحبني الجند إلى غرفة الإيقاف... وكنت ثَبْتًا جلدا، اعلم يقينا أن ملف القضية تافه وسخيف. وان الكيد خديعة من عمل الخّبّ... أنا لست خبّا ولا الخبّ يخدعني.
 نظرت إلى أحذية الجند... تذكرت مقالا نشرته أتيت فيه على صفقة شراء الاف الأحذية الخاصة بالجند... كانت صفقة احذية مغشوشة من الصين ذات كلفة عالية ...هذا بعد أن كان الجيش يصنع أحذيته وملابسه... قد مات الوطن فيهم.
وكنت في استقصائي ابحث عن المسؤول الحقيقي عن عقود وصفقات الجيش... كان شخصا مدنيا ملحقا بالديوان... وكنت قد نشرت مقالة عن الارتفاع المذهل لصفقات شراء طائرات الهليكوبتر...وعثرت أثناء البحث عن أثمان هذه الطائرات وطابقتها بأثمان طائرات مثلها اشترتها دول عربية... كان سعر الطائرة الواحدة متضخما بعيدا عن الواقع ... ينبئ بعمولات ورشى.
 وكنت أدرك دائما أن الصحافة العالمية تعتبر أن أكثر الصفقات التي تشوبها الرشاوى والعمولات عبر العالم هي صفقات الأسلحة... ومعلوم عندنا أن منسوب الفساد قد ارتفع ... ويمكن أن يطال الفساد بالضرورة صفقات الأسلحة.
يا قاضينا... أين أنت من هذا ؟ أين النيابة العسكرية، فلتفتح تحقيقا ... لن تفعل أبدا...
 بعد ساعة ... حملني العسكر إلى سيارة عسكرية ونقلت نقل دعاة الإرهاب مقيدا وكأنهم قد عثروا على خليفة داعش أو بابلو اسكويار زعيم المخدرات ...
وا أسفاه، أن يزج الفاسدون بالقضاء العسكري لمحاربة خصومهم... أما أنا... فأنا، كما أنا... أكتب، وأدّون، وأحارب رموز الفساد حتى الموت...
سـأظل شوكة في حلوق الكذابين والسّفلة والنَّوْكَى... ما بقي فيّ عرق نابض.
 دخلت سجن المرناقية مرفوع الرأس... واستقبلني حرس السجن استقبال الأبطال والتف حولي السجناء مبجلين موقّرين... الجميع يقرأ للثورة نيوز ولا يعرف صاحبها ... لم أكن لصا نهب أموال العامة... وما كنت محتالا افتك أرزاق الناس ... ولست قاتلا غدارا... وما أنا لست إلا قلم الحرية المغدورة باسم العدالة الانتقالية.
 هذه جولة في حرب طويلة مضنية... ضد عصابات الفساد التي تتمترس خلف الأحزاب السياسية... وتتحصن وراء هيئة فساد شوقي طبيب... تلك المافيات التي تلبس ربطة عنق فاخرة وتدخن السجائر الكوبية وتشرب الوسكيات وتقود فاخر السيارات وتمتلئ حسابتهم بأموال الشعب المنهوب... ولنا معهم جولات أخرى.
 الآن نحن ندير الحرب في مساحة فرضها القضاء الاستثنائي، ذاك الذي يستخدم لقمع الحريات وتكميم أفواه الصحافة... ومن العار ان يسيء بعض القضاة في المحكمة العسكرية لمؤسسة الجيش... هذا الجيش الذي يحمي الثغور ترى فيه قضاة أشقياء يتآمرون في مكاتبهم الفاخرة مع أدعياء السياسة... هل تعلمون أن المقاومة في السجن لها طعم اخر هو نضال الأحرار من الرجال...وشرف لنا أن نسجن من اجل الكلمة.
يتبع
 محمد الحاج منصور



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire