مذكرات سجين سياسي من الزمن الأسود ... عبد الدايم النومي
في ذلك اليوم الصيفي الرائع من عام 1991 كان عبد الدايم النومي يقبل ابنته الصغيرة ويغادر نحو عمله في ديوان التطهير بسوسة حيث يشتغل إطارا فنيا. لم يكن عبد الدايم يدري أن أمرا يدبر وانه لن يرى ابنتيه إلا بعد سنين من ذلك.لم يكن يدري ان سنينا سوداء في انتظاره....حين كان يهم بدخول الشركة أحاط به فجأة مجموعة من الاشخاص انقضوا عليه كالصاعقة وفي لمح البصر اركبوه في سيارة سوداء أغلقوا عينيه وأوثقوا يديه وانطلقوا به خلال مدينة سوسة حتى وصلوا الى مكان ما صعدوا به ثلاثة طوابق دخلوا به احد المكاتب أجلسوه ونزعوا الكمامة عن عينيه....نظر حوله رأى وجوها ذئبية يعرفها فأدرك انه في منطقة الشرطة بسوسة تلك البناية الرهيبة المنتصبة قرب الكورنيش.
التحقيق والتعذيب :
قال له احدهم:
- انت تعرفنا اكيد انك تعرفنا وحتى ان لم تكن تعرفنا فنحن نعرفك.هاهي الورقة وهاهو القلم واكتب كل شيء من يوم ولدتك امك الى اليوم.
كتب عبد الدايم أشياء وأخفى أشياء وسلمهم الورقة التي قراها رئيسهم ثم مزقها وسبّ الدين وصاح فيه:
- تستهزئ بنا يا ابن ال.... اريد ان اعرف من هو المسؤول عن خليتكم من هم اعضاء خليتكم السياسية.نريد كل اسمائهم.
لم ينطق عبد الدايم بكلمة....وانطلقت رحلة التعذيب....أمره بخلع كل ملابسه ثم جعلوه في شكل دجاجة مصلية بحيث تجمع يداه الى فخذيه ويصير رأسه الى اسفل وقدماه الى اعلى فينطلق الوجع من الساق الى الدماغ فيكون الالم مضاعفا.....ضربوه على ساقيه حتى اذا اغمي عليه سكبوا عليه الماء ليستفيق وتنطلق رحلة التعذيب من جديد.
بعد ذلك يفكون قيوده ويأمرونه بالركض في الرواق الطويل حتى لا تتيبس قدماه.فهم يريدونه في عافية ليواصلوا التعذيب.كان عبد الدايم وقتها في بداية الثلاثينات من عمره عريضا طويلا متين البنيان يقترب وزنه من المائة كيلوغرام وكان ذلك يستفزهم فيصرخون فيه:
- اتتحدانا ببدنك يا حلوف
ويهجمون عليه بعصيهم يضربونه على الراس على الظهر على البطن ثم يعيدونه مرة اخرى الى وضع الدجاجة المصلية ويضربونه حتى يدوخ....بعد ذلك عمدوا إلى تعليقه فأوثقوا يديه الى حلقتين مثبتتين في الجدار وتركوه هناك ساعات وساعات ولم يطلقوه إلا حين فقد وعيه بعد التعليق اجلسوه على ركبتيه مقابلا الحائط ويداه إلى فوق....تركوه على ذلك الحال ساعات وكلما هم بإنزال يديه تنزل عليه عصا الجلاد....في ذلك المساء حين اعادوه إلى زنزانته ظن أن ركبتيه لم تعودا موجودتين وأنهما قد شلتا وظل لا يحس بهما ساعات طويلة.....أثناء التحقيق تلقى ضربا مبرحا على بطنه الكبير الذي كان يغري الجلادين بالضرب.نتيجة ذلك حدث له نزيف صغير سوف يتطور الى نزيف خطير كان ذلك اثناء فترة السجن.
السجن الجحيم:
بعد انتهاء التحقيق كان السجن وكانت محكومية ب 8 سنين وكانت البداية بسجن سوسة ثم سجن المسعدين ثم سجن 9 افريل حين نقلوه من منطقة الشرطة الى السجن كان يظن انه استراح من التعذيب لكنه اكتشف ان السجن هو الجحيم وانه قد جعل للتشفي من المساجين السياسيين امثاله شماتة فيهم ولجعلهم يتوبون عن السياسة.... لأبسط الأسباب كان السجين السياسي يساق إلى جناح العقوبات وهناك تمارس عليه الفلقة وتنهال العصي ثم يلقى به في زنزانة قذرة تشاركه الجرذان سكنها.كان الحراس يسكبون الماء في بهو واسع ويطلونه بالصابون ثم يدفعون فيه بالمساجين السياسيين ويأمرونهم بالعدو والويل لمن يسقط....فأنت مطالب بأن تجري في مكان مطلي بالصابون ولا تسقط....إذا سقطت ينهال عليك الحراس بالعصي وتنقض عليك كلابهم المدربة. كانوا يتعمدون تعرية المساجين السياسيين لإهانتهم.وردا على ذلك اتفق عبد الدايم وزميله داود حمادة على إيجاد حل لمشكل التعرية فقررا انه في صورة اخراجهما للتعرية فإنهما ينزعان ثيابهما من الاسفل أي السراويل وما تحتها في اسرع وقت ممكن وينزعان باقي ادباشهما الفوقية على مهل.وهكذا فعلا فما كان من المدير والأعوان إلا أن شتموهما وقالوا لهما:" ماعادش تحشموا وتحياو يا قلال الحياة" ثم أرجعوهما الى البيوت المكتظة.ومن تلك اللحظة لم يعودوا الى تعريتهما.فهمنا وقتها انهم يلعبون على الحشمة والحياء.كان البوليس السياسي يريدون تحطيم عبد الدايم من الداخل وجعله يلعن السياسة فذهبوا الى زوجته التي تعمل معلمة وخيروها بين تطليقه او ان تفصل من وظيفتها.....فكرت المسكينة وفكرت وأدركت انها ان لم تطلق زوجها فستطرد من عملها ثم قد تسجن بعد ذلك بتهمة التستر على الاعمال الغير قانونية لزوجها ووقتها من يهتم بطفلتيها.وهكذا طلبت الطلاق ونالته في مدة قياسية.وكان عبد الدايم في زنزانته حين ناداه مدير السجن وبادره:
- مبروك لقد طلقتك زوجتك
المرض:
الى جانب طلاق زوجته ساءت حالة عبد الدايم....فقد تأثرت معدته بالضرب الذي تعرضت له فحدث له نزيف داخلي شديد كاد يؤدي بحياته.دخل في غيبوبة فأخذوه الى السجن فقد كان الدم قد انخفض الى 4. انقذوه في اللحظات الاخيرة اجروا له عملية جراحية وأعادوه الى السجن.بعد ذلك اجريت له عمليتان اخريان.واليوم حين تنظر بطنه ترى آثارها بائنة تخبرك بالظلم الفادح الذي حدث على الرجل.ثم أخذوه إلى سجن 9 افريل والجرح مازال طريا.....ونكاية فيه وضعوه في غرفة ضيقة تتسع لبعض الاشخاص وضعوا فيها 30 شخصا.كانت الغرفة مقابلة للشمس مما جعلها ساخنة مثل النار اللاهبة كانت الأجساد تكاد تتفجر من اللهب ويزداد الامر سوءا حين ينقطع الماء.....كان عبد الدايم غير مصدق لما يحدث فسجن 9 افريل دخله جده الحاج علي بلحاج صالح النومي بسبب مقاومته للاستعمار الفرنسي وحكم عليه بالإعدام الذي لم ينفذ.....هذا السجن دخله أبوه ايضا لأنه قاوم الاستعمار وبعد ذلك شارك في معركة بنزرت إذا كان جده وأبوه دخلا السجن من قبل الاستعمار فان عبد الدايم ادخله أبناء وطنه.
ما بعد السجن : التشرد والقهر
حين غادر عبد الدايم السجن كان محرما عليه ان يرى زوجته المطلقة وابنتيه.كان ممنوعا عليه ان يقترب من المنزل العائلي الذي بناه حجرا حجرا كان ممنوعا من الاقتراب من زوجته التي اجبرت على تطليقه وظلت مع ذلك تنتظر فرج الله.....حين تشتعل ناره لابنتيه كان يراهما من بعيد ولا يجرؤ على تقبيلهما واحتضانهما فقد كان يخشى ان تتعرض تلكما الزهرتان البريئتان لانتقام البوليس فتحصل لهما عقدة تلازمهما مدى الحياة لذلك فضل ان تعيشا حياة شبه طبيعية بعيدتين عنه.ضاقت الدنيا بعبد الدايم وحاصره البوليس ومنعوه من العمل مع أي شخص فعاد الى ريف عائلته في سبيطلة......وهناك ظل سنتين يرعى اغنام والده وكان يظن ان البوليس سينساه لكن البوليس لاحقوه حتى في ذلك الريف البعيد وضيقوا عليه ليشعروه انهم يراقبونه في أي مكان وفي أي زمان حاصروا أباه وأمه وإخوته وأصهاره.....أحس عبد الدايم انه جلب الأذى لعائلته ولذلك استلف حلقة اذن زوجة اخيه وباعها وفر من سبيطلة نحو الساحل وظل خلال هذه الفترة متخفيا عن البوليس وصار يشتغل مع شركة مقاولات تعمل بين المنستير وسوسة ونابل وكان يشتغل تحت اسم عبد الستار.توفيت والدته من القهر اثر جلطة وتوفي ابوه من الظلم بعد ازمة قلبية وهناك قرر عبد الدايم أن يظهر من جديد فاتصل بزوجته الوفية وتزوجها مرة أخرى وعاد إلى أسرته وابنتيه.اشتغل بعد ذلك في هاتف عمومي في القنطاوي ثم تاجر متجولا يبيع الخضر والغلال صحبة المناضلين صالح هاشم ورياض الرزوقي.....أثناء ذلك انخرط في الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين وهو اليوم رئيس فرعها بسوسة.
Journal Athawra News
4051 Khezama - Sousse
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire